فوائد من شرح الحافظ ابن رجب لبعض الأحاديث
يعوض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف: شرف التقوى وهيبة الخلق لهم في الظاهر ومن حلاوة المعرفة, والإيمان, والطاعة في الباطن وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحاً
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فللحافظ ابن رجب رحمه الله, مؤلفات كثيرة, في علوم متنوعة, منها علم الحديث, فله " شرح الباري في صحيح البخاري ", وله شرح جامع الترمذي, وله رسائل صغيرة في شرح بعض الأحاديث النبوية, وشروحه رحمه الله لهذه الأحاديث فيها الكثير من الفوائد, وقد يسّر الله الكريم لي فاخترت بعضاً منها, أسأل الله أن ينفعني والقرّاء بها.
حديث " لن ينجي أحد منكم عمله"
** لا تثق بكثرة العمل, فإنك لا تدري يُقبل منك أم لا, ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري هل كُفرت عنك أم لا لأن عملك عنك مُغيب كله لا تدري ما الله صانع به
** أفضل الناس من سلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه في الاقتصاد في العبادة البدنية, والاجتهاد في الأحوال القلبية
حديث " إن أغبط أوليائي عندي "
** من اكتفى من الدنيا باليسير وقنعت به نفسه فقد كفاه ذلك واستغنى به وإن كان يسيراً, قال أبو حازم: إن كان يغنيك ما يكفيك, فإن أدنى ما في الدنيا يكفيك, وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يكفيك.
حديث "مثل الإسلام"
* قال طاووس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجاب وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك
* من كانت نفسه شريفة, وهمتهُ عالية لم يرض لها بالمعاصي, فإنها خيانة ولا يرضى بالخيانة إلا من لا نفس له.
* ما أكرم العباد أنفسهم بمثل طاعة الله, ولا أهانوها بمثل معاصي الله عز وجل, فمن ارتكب المحارم فقد أهان نفسه, وفي المثل المضروب أن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع, غير اسمي فإنه قبيح, فقال له: أنت خائن, لا يصلح لك غير هذا الاسم, قال: جربني, فأعطاه شقة لحمٍ, وقال: احفظ لي هذه إلى غدٍ, وأنا أغير اسمك, فجاع, وجعل ينظر إلى اللحم, ويصبر, فلما غلبته نفسه, وقال: أيُّ شيءٍ أعملُ باسمي, كلب إلا اسم حسن فأكل.
حديث " تمثيل المؤمن بخامة الزرع"
* قال الحسن في أيام الوجع: أما والله ما هي بشر أيام المسلم...ذُكِّرَ فيها ما نسي من معاده, وكُفِّرَ بها عن خطاياه. وكان إذا دخل على مريض قد عوفي قال له: يا هذا إن الله قد ذكرك فاذكره, وأقالك فاشكره"
فهذه الأسقام والبلايا كلها كفارات للذنوب الماضية ومواعظ للمؤمنين حتى يتعظوا بها في المستقبل عن شر ما كانوا عليه.
* المؤمنون...مستضعفون في ظاهر أجسامهم وكلامهم لأنهم اشتغلوا بعمارة قلوبهم وأرواحهم عن عمارة أجسادهم, وبواطنهم قوية ثابتة عامرة يكابدون بها الأعمال الشاقة في طاعة الله...لا يخافون من ظهور ما في قلوبهم إلا خشية الفتنة على نفوسهم, وإن بواطنهم خير من ظواهرهم, وسرهم أصلح من علانيتهم.
* من تواضع لعظمة الله وصبر على بلائه كانت عاقبته الجنة وسلم في الدنيا والآخرة من البلاء, ورجيت العافية له.
حديث "يتبع الميت ثلاثة"
قال الله تعالى: { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] قال بعض السلف: في القبر, يعني: أن العمل الصالح يكون مهاداً لصاحبه في القبر, حيث لا يكون للعبد من متاع الدنيا فراش ولا وساد ولا مهاد, بل كل عاملٍ يفترش عمله ويتوسده من خيرٍ أو شر.
حديث "إذا كنز الناس الذهب والفضة "
* القلب السليم هو الذي ليس فيه محبة شيءٍ مما يكرهه الله, فدخل في ذلك: سلامته من الشرك الجلي والخفي, ومن الأهواء البدع, ومن الفسوق والمعاصي, كبائرها وصغائرها, الظاهرة والباطنة, كالرياء, والعجب, والغل, والحقد, والحسد, وغير ذلك, وهذا القلب السليم هو الذي لا ينفع يوم القيامة سواه, قال الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:98-99]
* عون الله للعبد على قدر قوة عزيمته وضعفها, فمن صمم على إرادة الخير أعانه وثبته, كما قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الـكرام المكارمُ
قال أبو حازم: إذا عزم العبد على ترك الآثام أتته الفتوح. يشير إلى ما يفتحُ عليه بتيسير الإنابة والطاعة. قال: من صدق العزيمة يئس منه الشيطان, ومتى كان العبدُ متردداً طمع فيه الشيطان وسوَّافه ومنَّاه.
* قال بعضهم: إنما سُمِّي الذهبُ ذهباً, لأنه يذهبُ, وسميِّت الفضة فضةً لأنها تنفضُّ, يعني تنفضُّ بسرعة, فلا بقاء لهما, فمن كنزهما, فقد أراد بقاء ما لا بقاء له, فإن نفعهما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوه الخير وسبل الخير.
قال الحسن: بئس الرفيق الدرهم والدينار, لا ينفعانك حتى يفارقانك, فما داما مكنوزين فما يضران ولا ينفعان, وإنما نفعهما بإنفاقهما في الطاعات, قال الله تعالى: {وَالَّذينَ يَكنِزونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقونَها في سَبيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرهُم بِعَذابٍ أَليمٍ} [التوبة:34] والآية ذم ووعيد لمنع يمنع حقوق ماله الواجبة من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإنفاق في النوائب
* القلب واللسان هما عبارة عن الإنسان, كما يقال: الإنسان بأصغريه, قلبه ولسانه. فمن استقام قلبه ولسانه استقام شأنه كله.
* كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون مجرد الإكثار منه, فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان أفضل من الكثير مع عدم الإتقان.
حديث "اللهم بعلمك الغيب"
كان ابن عون رحمه الله إذا اشتد غضبه على أحد قال: بارك الله فيك, ولم يزد.
وقال الفضيل رحمه الله: أنا منذُ خمسين سنة أطلب صديقاً إذا غضب لا يكذب علي ما أجده.
فإن من لا يملك نفسه عند الغضب إذا غضب قال فيمن غضب عليه ما ليس فيه من العظائم, وهو يعلم أنه كاذب, وربما علِمَ الناسُ بذلك ويحمله حقده وهوى نفسه على الإصرار على ذلك.
* الموجب لخشية الله في السر والعلانية أمور:
منها: قوة الإيمان بوعده ووعيده على المعاصي
ومنها: النظر في شدة بطشه وانتقامه وقهره, وذلك يوجب للعبد ترك التعرض لمخالفته, كما قال الحسن: ابن آدم, هل لك طاقة بمحاربة الله, فإن من عصاه فقد حاربه. وقال بعضهم: عجبتُ من ضعيف يعصي قوياً.
ومنها: قوة المراقبة له, والعلم بأنه شاهد ورقيب على قلوب عباده وأعمالهم.
* أكثر الناس يرى أنه يخشى الله في العلانية والشهادة, ولكن الشأن في خشية الله في الغيب إذا غاب عن أعين الناس, قال بعضهم: ليس الخائف من بكى وعصر عينيه, إنما الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه.
حديث " لبيك اللهم لبيك
** الرضا بالقضاء: من علامات المخبتين الصادقين في المحبة, فمتى امتلأت القلوب بمحبة مولاها رضيت بكل ما يقضيه عليها من مؤلم ومُلائم...وصار رضاها في ما يرد عليها من أحكامه وأقداره.
** الرضا بالقضاء قبل وقوعه: فهو عزم على الرضا, وقد تنفسخ العزائم عند وقوع الحقائق, ومع هذا فلا ينبغي أن يستعجل العبد البلاء, بل يسأل الله العافية...فإن نزل البلاء تلقاه بالرضا.
** الجسد عيشه: الأكلُ والشرب والنكاح واللباس والطيب وغير ذلك من اللذات الحسية...وأما الروح...فقوتها ولذتها وفرحها وسرورها في معرفة خالقها وبارئها وفاطرها وفي ما يقرب منه من طاعته وذكره ومحبته, والأنس به, والشوق إلى لقائه.
** يوجد كثير من أهل الغنى والسعة يعطي جسده حظّه من التنعيم, ثم يجد ألماً في قلبه ووحشة, فيظنه...يزول بزيادة هذه اللذات الحسية, وبعضهم يظن أنه يزول بإزالة العقل بالسكر. وكل هذا يزيد الألم والوحشة. وإنما سببُه: أن الروح فقدت قوتها وغذاءها, فمرضت وتألمت.
** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه, فإن كان لابدّ فاعلاً فثلثُ طعام وثلث شراب وثلث نفس» قال بعض السلف: ما قلَّ طعام امرئ إلا رق قلبه ونديت عيناه وقال: قلة الطعام عون على التسرع إلى الخيرات.
** من وفى نفسه حظها من عيش جسده بالشهوات الحسية كالطعام والشراب فسد قلبه وقسى, وجلب له ذلك الغفلة وكثرة النوم, فنقص حظُّ روحه وقلبه من طعام المناجاة, فخسر خسراناً مبيناً.
** عيش المتقين في الجنة فلا يحتاج أن يسأل عن طيبه ولذته, ويكفى في ذلك قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21-24] ومعنى راضية, أي: عيشة يحصل بها الرضى. وفسر ابن عباس: هنيئاً: بأنه لا موت فيها, يُشير إلى أنه لم يهنهم العيش إلا بعد الموت والخلود فيها.
** قوله صلى الله عليه وسلم: « وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة » فهذا يشتمل على أعظم نعيم المؤمن في الدنيا والآخرة, وأطيب عيش لهم في الدارين. فأما لذة النظر إلى وجه الله عز وجل: فإنه أعلى نعيم أهل الجنة. وأما الشوق إلى لقاء الله: فهو أجل مقامات العارفين في الدنيا.
وإنما قال: « من غير ضراء مضرة ولا فتنة مُضلة» لأن الشوق إلى لقاء الله يستلزم محبة الموت, والموت يقع تمنيه كثيراً من أهل الدنيا, بوقوع الضراء المضرة في الدنيا وإن كان منهياً عنه في الشرع.
ويقع من أهل الدين تمنيه لخشية الوقوع في الفتن المضلة. فسأل تمنى الموت خالياً من هذين الحالين, وأن يكون ناشئاً عن محض محبة الله والشوق إلى لقائه.
** سئل بعضهم: من أنعم الناس ؟ فقال: أجسام في التراب, قد أمنت العذاب, وانتظرت الثواب.
** من سلم من ظلم غيره, وسلم الناس من ظلمه فقد عُوفي وعوفي الناس منه, فظلم العباد شر مكتسب, لأن الحق فيه لآدمي مطبوع على الشح, فلا يترك من حقه شيئاً لاسيما مع شدة حاجته يوم القيامة, فإن الأم تفرحُ يومئذ إذا كان لها حق على ولدها لتأخذه منه.
حديث " ما ذئبان جائعان "
** الحرص حرصان: حرص فاجع, وحرص نافع, فأما النافع, فحرص المرء على طاعة الله, وأما الحرص الفاجع, فحرصُ المرء على الدنيا.
** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل, كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل.
** لو لم يكن في الحرص على المال إلا تضيع العمر الشريف الذي لا قيمة له, وقد كان يُمكنُ صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم, فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم, لا يأتي منه إلا ما قُدِّر وقُسم, ثم لا ينتفع به, بل يتركه لغيره, ويرتحل عنه فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره.
** وأما حرص المرء على الشرف فهو أشدُّ فتكاً من الحرص على المال, فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها, والرياسة على الناس, والعلو في الأرض أضرُّ على العبد من طلب المال, وضرره أعظم, والزهد فيه أصعبُ, فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف. وقل من يحرص على رياسة الدنيا بطب الولايات فيوفق, بل يوكل إلى نفسه, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه: «يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة, فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها, وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» .
** من لم ينتفع بالعلم...أحب مجالسة...أبناء الدنيا, وأحب أن يشاركهم فيما هم فيه من...مظهر بهي, وطعام شهي, وأحبَّ أن يفشى بابه, وأن يسمع قوله, ويطاع أمره.
** في الدنيا جنة معجلة وهي معرفة الله ومحبته, والأنس به, والشوق إلى لقائه, وخشية وطاعته, والعلم النافع يدل على ذلك, فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة, ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة, ولهذا كان أشدّ الناس عذاباً في الآخرة عالم لم ينفعه الله بعلمه, وهو من أشد الناس حسرة يوم القيامة حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات, وأرفع المقامات, فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخسِّ الأمور وأدناها وأحقرها, فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة فباعها ببعرةٍ أو شيءٍ مستقذر لا ينتفع به, فهذا حال من يطلب الدنيا بعلمه, بل أقبح وأقبح من ذلك من يطلبها بإظهار الزهد فيها, فإن ذلك خداع قبيح جداً.
** كتب سفيان الثوري إلى عباد بن عباد, وكان في كتابه: إياك أن تكون ممن يحبُّ أن يعمل بقوله, أو ينشر قوله, أو يسمع قوله, وإياك وحب الرئاسة فإن الرجل يكون حبُّ الرياسة أحبَّ إليه من الذهب والفضة, وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة, فتفقد قلبك, واعمل بنية.
** في درجات الآخرة الباقية يشرع التنافس وطلب العلو في منازلها والحرص على ذلك بالسعي في أسبابه, وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلو, وأما العلو الفاني المنقطع الذي يعقبُ صاحبه غداً حسرةً وندامةً وهواناً وصغاراً فهو الذي يشرع الزهد فيه والإعراض عنه.
** يعوض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف: شرف التقوى وهيبة الخلق لهم في الظاهر ومن حلاوة المعرفة, والإيمان, والطاعة في الباطن وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: