أدَبُ الطَلَب وأثره في سلوك المتفقه وعِلْمِه
وقد أدى الإخلال بأدب النفس إلى كثير من الخلل والزلل، ولو أحكم هذا الأدب لكثر في الناس أهل العلم والفضل، ولارتفع كثير من الخلاف والشقاق، وفي السطور التالية مزيد تأكيد وبيان لهذا الموضوع المُهِمِّ
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
آفات القلوب وأمراضها تنحرف بصاحبها عن المنهج السوي، وتحُول دون وصوله إلى الحق، وقد لا يَسْلَم الباحث وطالب العلم مِن آفة أو أكثر من هذه الآفات؛ ومن ثم وجب عليه أن يجاهد نفسه في طلب السلامة والخلاص منها، مستعينًا بالله، موقنًا أن أعدى عدوِّه نفسه التي بين جنبيه، متمثلاً قول القائل:
أعِنّي عَليَّ فَإنِّي عَدوِّي وأنت عَليمٌ بِكُلِّ الخَفايا
وقد أدى الإخلال بأدب النفس إلى كثير من الخلل والزلل، ولو أحكم هذا الأدب لكثر في الناس أهل العلم والفضل، ولارتفع كثير من الخلاف والشقاق، وفي السطور التالية مزيد تأكيد وبيان لهذا الموضوع المُهِمِّ
أولًا - تعريف أدَب الطَلَب وموضوعه:
أدَبُ الطَلَب عِلْم يهتم بتهذيب النفس وتنمية الاستعداد العقلي والقلبي والخلقي لطالب العلم بشكل عام ، فهو يلفت نظره إلى جملة من الخصال الحميدة، والأخلاق الحسنة، بلا تكلف ولا تَصَنُّع، منها:
إخلاص النية لله ، والتدرُّج في الطلب، والحرص والمواظبة والمثابرة واغتنام الأوقات وترتيب الأولويات، وحسن السؤال والاستماع، والرِّفق والتَّواضُع والصِّدْق والصَّبر والزهد، وموالاة العلماء ومحبتهم وتقديرهم والتماس الأعذار لهم.
كما أنَّه يلفت نظره لآفات الطلب وعوائقه، ومن أمثلتها:
التعالم وسوء الخلق والعُجْب والكِبْر والغرور وحب الظهور والشهرة والتصدر، والثرثرة وكثرة الحديث عن النفس والتسرع في التحليل والتحريم، والمراء والجدال والغضب للنفس والانتصار لها، والاعتداد بالرأي، والتقليد الأعمى، والتعصب الأهوج، والتحاسد والحقد، والغلو في الأشخاص، وسوء الظن بالآخرين، والإغراق في الفروع الفقهية على حساب تزكية النفس وصلاح القلب.
وهذه الأمور في مجملها- مع كونها مطلوبة من كل مسلم، لأنها مما دلت عليها نصوص الشريعة وكلياتها العامة - إلا أنها في حق طلبة العلم آكَد وأوجب، ويُعَلِّلُ الخطيب البغدادي (ت: 463هـ) ذلك بقوله ( لدوام قَرْعِ أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وآدابه، وسِيرَةِ السَّلَفِ الأخيار مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وأصحابه، وطرائق المحدِّثين، ومآثِر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها، و يَصْدِفُوا -أي: يبتعدوا- عن أَرْذَلِهَا وَأَدْوَنِهَا)([1]).
ومتى غابت هذه الآداب عن طالب العلم أصيب بآفات خطيرة جدًا في الفكر والنفس والسلوك.
ثانيًا- تأكيد العلماء على أنَّ الأدَب قبل الطَلَب:
أكد سلفنا الصالح على ضرورة تعلُّم الأدب قبل الطلب والتزكية قبل التعليم؛ بحيث يُرى أثر ذلك في سلوك صاحبه ومواقفه وعلاقاته. وأقوالهم في هذا المعنى كثيرة جدًا، منها:
- قول عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "تَأَدَّبُوا، ثُمَّ تَعَلَّمُوا".
- قول محمد بن سيرين: "كانوا يتعلمون الهَدْيِ كما يتعلمون العلم". والمقصود بالهَدْيِ هنا: السكينة والوقار، أمَّا السَمْت فهو حُسْن الهيئة.
- قول الحَسَنِ البَصْرِيّ: "كان الرَّجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشُّعه، وهديه، ولسانه، وبصره، ويده.
- قول عبدالله بن المبارك: "طلبت الأدب ثلاثين سنةً، وطلبت العلم عشرين سنةً.
وقوله: "كاد الأدب أن يكون ثُلُثي الدِّين، وقوله أيضا: "نحن إلى قليل من الأدب أَحْوَجُ مِنَّا إلى كثير من العلم"([2]).
كما تناولت أيدي الفحول من علمائنا الأخيار هذه القضية بالبحث والتأليف -على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم- في وقت مبكر من عمر الدعوة الإسلامية إلى يومنا هذا، غرضهم في ذلك حفظ جناب الدين من المتفيقهين والدخلاء، حتى يبقى رونقه وعبيره كما أراده الله.
والمؤلفات في هذا المجال كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
تلبيس إبليس (في بعض فصوله) لابن الجوزي، أخلاق العلماء لأبي بكر الآجُرِّيّ، الفقيه والمتفقه، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وكلاهما للخطيب البَغْدَادِيّ، جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر، وهذا الكتاب والذي قبله من أجمع وأوسع وأشمل ما أُلف في موضوعهما، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لبدر الدين بن جماعة، مقدمة كتاب المجموع للإمام النووي، وقد طبع مستقلاً بعنوان: كتاب العلم وآداب العالم والمتعلم.
ومن الكتب المعاصرةِ والمُهِمّة والتي لا يستغني عنها طالب علم:
التعالم وأثره في الفكر والكتاب للشيخ بكر أبي زيد، وله أيضًا حلية طالب العلم، وقد قام بشرحه الشيخ العلامة ابن عثيمين، وغيرها من الكتب النافعة، أجزل الله الأجر للجميع.
ثالثًا- أدَبُ الطَلَب بين العلم والعمل:
مِن الْمُهِمِّ أن لا يقتصر الاهتمام بأدَب الطَلَب على الدراسة النظرية دون تطبيق، وممارسة، فالدراسة النظرية والمعرفة الذهنية الباردة لن تجدي نفعًا ما لم يصحبها معرفة قلبية حية تُتَرْجَمُ إلى تطبيقات عملية تتجسد في السلوك والتصرفات، فالعلم ليس حشو معلومات وحفظ مرويات، وإنما هو في الحقيقة تعاهد النفس بالإصلاح في العلم والعمل، والدين والخُلُق، لذا كان السلف لا يطلقون اسم العالم إلا على من عنده علم يوجب له الخشية، امتثالاً لقوله تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} [فاطر: 28]. ومن الآثار الدالة على ذلك، قول عبد الله بن مسعود: ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية.
وقول الإمام أحمد رحمه الله لما قيل له: إن معروفًا الكَرْخِيّ قليل العلم، فقال: معه أصل العلم: خشية الله، وفي رواية: وهل يراد العلم إلا لما وصل إليه معروفٌ؟([3]).
ومن الملاحظ أنه على الرغم من كثرة الكتب في عصرنا وانتشارها إلا أن ضحالة الفكر والجدب الروحي والسلوكي وتضاؤل قيمة العلم ومكانة أهله أمر واضح للعيان، ولذلك أسباب، منها:
"أن يكون اشتغال طالب العلم بما يسمى علمًا وليس علمًا حقيقيًا، وإنما العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه، وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه، وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر والأمن.
أن يخوض في العلم وهو خبيث الباطن رديء النفس سيئ الأخلاق، فإنه لم يشتغل أولاً بتهذيب نفسه وتزكية قلبه، فبقي خبيث الجوهر، فإذا خاض في العلم - أي علم كان - صادف العلم من قلبه منزلاً خبيثًا فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخير أثره([4]).
رابعًا - أدَبُ الطَلَب من أعظم الأسباب لبلوغ الغاية:
مِن المُهِمِّ جدًا أن يولي طالب العلم هذا الجانب عناية كبيرة، فبدونه لن يَصْلُح الطالب لتلقي العلم، ولن يتمكن من الاطلاع على دقائق معانيه ودُرره ونفائسه، "فإن العلم صلاة السر وعبادة القلب وقربة الباطن، وكما لا تصلح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحَدَث والخَبَث، فكذلك لا يصح العلم- الذي هو عبادة القلب- إلا بطهارته عن خُبْث الصفات وحَدَث مساوئ الأخلاق ورديئها، وإذا طُيِّب القلب للعلم ظهرت بركته ونما، كالأرض إذا طُيِّبت للزرع نما زرعها وزكا..."([5]).
"ولا ريب أنَّ الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين وعباده الصالحين- بِسَبَبِ طَهَارَةِ قُلُوبِهِمْ مِمَّا يَكْرَهُهُ واتِّبَاعِهِمْ مَا يُحِبُّهُ- ما لا يَفْتَحُ به على غيرهم. وأَخْبَرَ أَنَّ اتِّبَاعَ ما يَكْرَهُهُ يَصْرِفُ عَنْ العِلْمِ والهُدَى وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ على ذلك في غير موضع ... فكما أَنَّ اللوح المحفوظ الذي كُتِبَ فيه حروف القرآن لا يَمَسُّهُ إلا بَدَنٌ طاهر؛ فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة وهي قلوب المتقين... وإذا كانت الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلبٌ فكذلك القلب لا يَدْخُلُهُ حقائق الإيمان إذا كان فيه ما يُنَجِّسُهُ مِنْ الْكِبْرِ والحَسَدِ "([6]).
"لذلك قال بعض المحققين تعليقا على قول سفيان الثَّوري رحمه الله : تعلمنا العلم لغير الله ، فأبى أن يكون إلا لله" ، معناه : أنَّ العلم أبى وامتنع علينا فلم تنكشف لنا حقيقته، وإنما حصل لنا حديثه وألفاظه([7]).
خامسًا- بماذا ارتفع العلماء السابقون؟
لم يرتفع السابقون إلا بحرصهم على سلامة بواطنهم، ومجاهدتهم لآفات النفوس، فقد كانوا نماذج حية في الأدب والتزكية والصدق والإخلاص مع تمكنهم في تخصصاتهم الشرعية والمعرفية، ومن يتأمل سيرهم وأحوالهم يجد من ذلك شيئًا عجيبًا، فهذا الإمام ابن الجوزي (ت: 597هـ) يحكي عن من انتفع بصحبته من المشايخ، فيقول:
لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه.
ولقيت عبد الوهاب الأَنْمَاطِيَّ ([8])، فكان على قانون السَلَف، لم تسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق، بكى، واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
ولقيت الشيخ أبا منصور الجَوَالِيْقِيَّ([9])، كان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنًا، محققًا، وربما سُئل المسألة الظاهرة، التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت.
فانتفعتُ برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول...
فالله الله في العمل بالعلم، فإنه الأصل الأكبر. والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مفلسًا، مع قوة الحجة عليه"([10]).
أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/ 78(.
([2]) تنظر هذه الآثار في تلبيس إبليس (ص: 109(، الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 552(، جامع العلوم والحكم (1/ 266(، مدارج السالكين (2/ 356(.
([3]) تنظر هذه الآثار في جامع العلوم والحكم (1/ 266(.
([4]) إحياء علوم الدين (3/ 349).
([5]) تذكرة السامع والمتكلم (ص: 67)، وقريب منه في: إحياء علوم الدين (1/ 49(.
([6]) مجموع الفتاوى (13/ 245)، (13/ 242).
([7]) إحياء علوم الدين (1/ 50(.
([8]) هو عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي، أبو البركات، من شيوخ ابن الجوزي، كان إمامًا حافظًا، عابدًا سريع الدمعة، دائم البشر، حسن المعاشرة، (توفي : 538 هـ).
([9]) هو موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي عالم بالأدب واللغة، مولده ووفاته ببغداد، (توفي: 540هـ).
([10]) صيد الخاطر (ص: 159(.
- التصنيف: