الصدقة وأثرها في خدمة المجتمع
محمد سيد حسين عبد الواحد
وفي هذا الاختلاف الذي بين الناس أيضاً اختبار بالخير وامتحان بالنعمة للنفوس الغنية القوية وكيف تنظر إلى الضعفاء والفقراء والأرامل واليتامى وأصحاب الحاجات ؟
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
أيها الإخوة الكرام: حكمة الله تعالى اقتضت أن يختلف الناس اختلاف تنوع فجعل منهم الغني وجعل منهم الفقير وجعل منهم القوي وجعل منهم الضعيف ، وجعل منهم العالم ، وجعل منهم غير العالم { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ}
هذا الاختلاف الذي بين الناس هو اختلاف ( تنوع ) يسمح لأن يكون بين الناس تكاتف وتعاون ويسمح بتبادل الحاجات بين الناس فقراء وأغنياء ضعفاء وأقوياء بحيث لا يستغني الإنسان عن أخيه الإنسان ..
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ }
وفي هذا الاختلاف الذي بين الناس أيضاً اختبار بالخير وامتحان بالنعمة للنفوس الغنية القوية وكيف تنظر إلى الضعفاء والفقراء والأرامل واليتامى وأصحاب الحاجات ؟
{وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ، وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ، وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ ، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ ، وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ ، فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ ، وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ ، وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ ، فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْرَىٰ ، وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدَّىٰٓ ، إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ ، وَإِنَّ لَنَا لَلْءَاخِرَةَ وَٱلْأُولَىٰ ، فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ ، لَا يَصْلَىٰهَآ إِلَّا ٱلْأَشْقَى ، ٱلَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ، وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلْأَتْقَى ، ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ ، وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰٓ ، إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلْأَعْلَىٰ ، وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ .. }
ينجح في الاختبار بالنعمة إنسان فك كفيه وبذل ماله وأعطى مما أعطاه الله ابتغاء مرضاة الله عز وجل { وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ ٱلْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌۢ }
ومن الأغنياء الأقوياء الذي نجحوا في الاختبار بالنعمة ففك كفه بالصدقة والعطية والنفقة في سبيل الله تعالى ، بل هو أول من أسس لها قدوتنا وأسوتنا أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام قال الله تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىٓ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ }
في حديث القرآن الكريم عن إبراهيم عليه السلام
قال الله تعالى {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي جمع إبراهيم عليه السلام خصال الخير كلها لم يدع منها شاردة ولا واردة ، فكان رحيما ، وكان حليما ، كان أوابا، وكان أواها، كان منيبا، وكان صبوراً، كان حكيماً عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام ..
من أبرز صفات الخليل عليه السلام أنه كان كريما سخيا ..
أحرز قصب السبق في المكارم كلها { إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً } كان إماماً يقتدى به في كل مكرمة وفي كل معروف ..
فهو أول من ضرب بالسيف في سبيل الله ، وهو أول من خطب على المنابر ، وهو أول من اتخذ العصا ، وهو أول من اختتن ، وهو أول من قلم أظفاره ، وهو أول من قص شاربه ، وهو أول من استاك بالسواك ، وهو أول من استنجى بالماء ، وهو أول من لبس السراويل ، وهو أول من شاب رأسه ، وهو أول من سمى المسلمين مسلمين ، وهو أبونا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام ..
{وَجَٰهِدُوا۟ فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ هُوَ ٱجْتَبَىٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعْتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ ۖ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }
وإذا كنا اليوم نتحدث عن الصدقة والنفقة في سبيل الله فإن إبراهيم عليه السلام هو أول من سن النفقة في سبيل الله فهو أول من استضاف الضيف ففرح به وأكرمه ، وهو أول من ثرد الثريد وأطعم الطعام في سبيل الله تعالى ..
أما الثريد فهو ( الخبز المفتت مع اللحم والمرق ) وهو أزكى الطعام وأكثره بركة ، وهو طعام العرب ، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل على سائر الطعام فقال عليه الصلاة والسلام: (كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا: آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ )
{هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ ، إِذْ دَخَلُوا۟ عَلَيْهِ فَقَالُوا۟ سَلَٰمًا ۖ قَالَ سَلَٰمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ، فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ، فَقَرَّبَهُۥٓ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ }
أكرمهم أول ما أكرمهم ببشاشة الوجه ، ثم أجلسهم بألين المواضع وألطفها ثم عجل لهم ب(القرى ) والقري طعام الضيف ..
قال ابن عباس : كانوا ثلاثة من الملائكة في صورة بشر جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ، جائوا يبشرون إبراهيم بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب , وجائوا يبشرونه أيضاً بهلاك الفساق من قوم لوط عليه السلام ..
فنزلوا ليلتها ضيوفاً بإبراهيم عليه السلام فقام يخدمهم بنفسه وهو نبي مرسل عليه الصلاة والسلام {فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ، فَقَرَّبَهُۥٓ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ}
قام الخليل بكرمه يخدم ضيوفه بنفسه فذهب سرا { فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ} ثم رجع ومعه خدمه يحملون عجلا سمينا مشويا على حجارة محماة لم تمسه نار واختار إبراهيم أن يطعم ضيوفه وهم ثلاثة فقط ( عجلا سمينا ) زيادة في إكرامهم ومحبة في الضيافة والإطعام والنفقة في سبيل الله ..
{﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَٰهِيمَ بِٱلْبُشْرَىٰ قَالُوا۟ سَلَٰمًا ۖ قَالَ سَلَٰمٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ }
قال النبي عليه الصلاة والسلام ( كان أول من أضاف الضيف إبراهيم عليه السلام )
وعند الزمخشري في الكشاف : أن إبراهيم عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف ..
وقال المناوي : كان إبراهيم عليه السلام يسمى أبا الضيفان إذ كان يمشي الميل والميلين في طلب من يتغدى معه ..
أحد أكرم الأنبياء والمرسلين إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام أوتى محبة واسعة ، وقبولا واسعا ، وأوتي أيضاً مالا واسعا قال الله تعالى عنه ( وآتيناه في الدنيا حسنة ) وعهد الله تعالى إليه أن يواسي به الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى والضيفان فوفى إبراهيم بما عاهد عليه الله ﴿ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰٓ إبراهيم رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ ﴾
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح لنا أبواب رحمته وأن يغنينا بفضله عن كل ما سواه ..
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن الصدقة والنفقة في سبيل الله تعالى وعن الكرم وبذل المعروف لله تعالى تأسيا بالخليل إبراهيم عليه السلام وتأسيا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان يصل الرحم ويحمل الكل ويكسب المعدوم ويقري الضيف ويعين على نوائب الدهر ..
بقى لنا أن نقول : وماذا تفعل الصدقة في قلوب الناس ؟
بالصدقة تبقى النفوس طاهرة نقية زاكية { خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
بالصدقة تذوب جبال من الأحقاد والأضغان بين الناس ، بالصدقة تبقى القلوب متحابة ، ويبقى المسلمون بخير ما رحم بعضهم بعضاً قال النبي عليه الصلاة والسلام ( الراحمون يرحمهم الله عزّ وجل )
الصدقة الطيبة تزرع البركة وتورث النعمة فالمال المزكى لا يسرق ولا يحرق وما من ليلة إلا وملكان ينزلان فيها يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ..
الصدقة سبب بقاء الإيمان في القلوب المؤمنة فالصدقة تحارب الفقر وقد كاد الفقر أن يكون كفرا ..
وكم من إنسان أسره رسول الله صلى الله عليه وسلم وحببه في الإسلام بإحسانه وعطيته فرجع إلى قومه داعية يدعو إلى ما يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ..
قال النبي عليه الصلاة والسلام «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام »
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوسع أرزاقنا وأن يبارك في أموالنا وأولادنا وذرياتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه .