الاستثمار في الموهوبين
قلّة قليلة من البشرِ يتمتّعون بقدرات غير عادية، وآفاق فكرية غير محدودة، وتظهر عليهم علامات النجابة والذكاء، والعبقرية والنباهة، وسعة الخيال وسرعة البديهة، وحُبّ الاستطلاع، والنظرة الثاقبة منذ الصغر.
قلّة قليلة من البشرِ يتمتّعون بقدرات غير عادية، وآفاق فكرية غير محدودة، وتظهر عليهم علامات النجابة والذكاء، والعبقرية والنباهة، وسعة الخيال وسرعة البديهة، وحُبّ الاستطلاع، والنظرة الثاقبة منذ الصغر.
هؤلاء يُطلق عليهم الموهوبون أو النوابغ، ويشكّلون صفوة العلماء والمفكّرين والقادة والمبتكرين، ويعتبرون رأس مال الدول والمؤسسات العلميّة، بل الثروة الوطنية الغالية التي يجبُ الحفاظ عليها ورعايتها؛ حيث إنّه من المحتمل جدًّا أن يفتحوا نوافذ الأمل والمُستقبل للأمّة، ويحقّقوا الإنجازات والابتكارات، والريادة والتَّميُّز في ميادينَ علميةٍ وفكريةٍ عديدةٍ ومتنوّعةٍ إن شاء الله تعالى.
ولقد حثَّ الإسلام على احتضان النابهين؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعزّز قدرات أصحابه ويحتفي بهم، فها هو صلى الله عليه وسلم يثني على تلاوة أبي موسى الأشعري بقوله: « «يا أبا مُوسَى لقَدْ أُوتِيتَ مِزْمارًا مِن مَزامِيرِ آلِ داوُدَ» »؛ (أخرجه البخاري). ويمدح موهبة أبي قتادة وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما في الجرأة والشجاعة والفروسية والنزال يوم الحديبية قائلا: « «خيرُ فُرسانِنا اليومَ أبو قَتادةَ، وخيرُ رجَّالتِنا اليومَ سلَمةُ بنُ الأكوعِ» »؛ (أخرجه ابن حبان في صحيحه).
وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشير الفتيان ويتّبع حِدّة رأيهم في الأمور المعضلة، ويُدخل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما -وهو غلام صغير- مع أشياخ بدر؛ ويرجعُ إليه في المسائل الكبيرة؛ لما عرف من نجابته وذكائه وفقهه وبصيرته في مسائل الشرع.
وفي العصر العباسي نجد الخليفة هارون الرشيد يهتمّ بأهل القرآن ويغدق عليهم العطايا والصلات، حتى لقد كان الغلام يحفظ القرآن وعمره ثمان سنين، ويستنجز في الفقه والفهم وعلم الحديث ويجمع الدواوين، وهو ابن إحدى عشرة سنة.
الموهوبون ثروة غنية ونعمة كبيرة، يحتاجون إلى رعاية ومعاملة خاصة، بدءًا من الأهل والأسرة، ومرورًا بالمدرسة والتعليم، ووصولًا إلى احتواء الدول بتوفير البرامج الملائمة لهم؛ للحفاظ على توقّد أذهانهم وتنشيط عقولهم وصقل مواهبهم؛ فلربّما أنجز أحدُهم خلال مُدّةٍ وجيزةٍ ما يعجزُ الآخرون عنه في سنوات، ولربّما ارتقى أحدهم إلى منابر العلا ولم ينبت له شارب، ولربّما سجّل براءة الاختراع وهو في ريعان الشباب.
والناظر إلى الدول المتقدّمة صناعيا -كاليابان وكوريا الشمالية وأخواتها- يدرك مدى اهتمامهم بوضع برامج لكشف المبدعين، وتخصيص فصول الشرف لاحتواء اللامعين، واستهدافهم ببرامج نوعية، وتسريع عملية تعليمهم بواسطة الاختبارات الخاصة تمهيدًا لقبولهم في الجامعات، ودمجهم في البحث العلمي، واستثمار قدراتهم وطاقاتهم.
وممّا يندى له الجبين أنّ الدول الأوروبية ترحّب بمثل هذه العقول من دول العالم الإسلامي، وتوفّر لهم اللجوء والهجرة لا لحبّها ورغبتها فيهم، بل طمعا في الاستفادة منهم في عجلة التنمية والبناء، والأمن السيبراني والشبكات الرقمية، والأبحاث الطبّية والاكتشافات، وتمكينهم من أداء دورهم الحضاري والإيجابي في تقدُّم ورقي تلك الدول.
لولا العقولُ لكان أدنى ضَيغمٍ *** أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ
شمعة أخيرة:
إن رحلة البناء والتّطور، ومسيرة التّمدن والتّحضر لكلّ دولة تنطلق من الاحتفاء بالعلماء والمخترعين، والمبدعين وذوي المواهب، وبهم ترتقي الدول، وتتحقق الرؤى، وينمو الاقتصاد، ويزدهر البحث العلمي، والأمة التي لا تقدّر نوابغها ولا تحافظ على ثرواتها الوطنية من الضياع والهجرة، لا يمكنها أن ترسم لنفسها المستقبل المشرق في ظلّ الظروف والتحديات العالمية.
_______________________________________
الكاتب: د. سعد الله المحمدي
- التصنيف: