القدوة!

ينطبق هذا النصُ أيضًا على القراءة، فقد ظللتُ مناصرًا لفكرة كتاب، غير قادرٍ على نقده إلاَّ لِماما، حتى جاءت فرصةُ توضيح معانيه من خبير جليلٍ ذي باعٍ واسع في مجاله، فأدركت أنني كنت أحطبُ بليلٍ في ذلك الكتاب.

  • التصنيفات: - آفاق الشريعة -

سأظلُ مجتزأ التفكير، أُخمن تفسيرًا واحدًا لحدثٍ ما، ما لم يُبينه لي أحد.

 

ينطبق هذا النصُ أيضًا على القراءة، فقد ظللتُ مناصرًا لفكرة كتاب، غير قادرٍ على نقده إلاَّ لِماما، حتى جاءت فرصةُ توضيح معانيه من خبير جليلٍ ذي باعٍ واسع في مجاله، فأدركت أنني كنت أحطبُ بليلٍ في ذلك الكتاب.

 

أيضا ينصب النص إلى الحكمِ على الأشخاص، فكم وجهني موقفٌ ما لأبني رأيًا سريعًا في شخصٍ ما، حتى علمتُ من أحد الفضلاء أنْ ليس كل ما تراه في أخيك عيبًا في موقف ما، هو عيب ملازمٌ له على الإطلاق.

 

ظللتُ أقرأُ القرآن وبلفظي كثير من الأخطاء النحوية الجلية لغيري إلاَّ أنا، فقد كنتُ اعتقدُ أنني "منشاوي الجيل"، لكن بعد العرض على المشايخ المجيزين رأيتني قزمًا يلزمه الكثير من التوجيه!

 

هذه هي الحياة بدون تعلم! ولا يتأتى العلم صدفة ووراثة، ولا يكتسب بذكاء عقل، ولا توقد فهم، ما لم يرسخه بصورة صحيحة في أذهاننا عالمٌ متخصصٌ وقدوةٌ نبيل!

 

وفي معرضِ الحياةِ يظهرُ باستمرار إلحاحُ الاكتفاءِ لدى الإنسان، وأنفته أن يسعى لتصحيح رؤيته لدى العقلاء المجيدين، بدلًا من التمسك برأيٍ أو فكرةٍ تظل ملازمة له، وتطبع على جبهته سخافةً ليس لها مبرر سوى العناد!

 

ويا للأسف البالغ، فقد انسحبت القدوة كمفهوم حيوي من مجتمعاتنا أمام بَلادة الرأي وبطش السفهاء، وظل الصراع الأنكى أنك قلما تجد من يبحث عن قدوة، أو من يظهر كقدوة! وبالأحرى سينفلت المجتمع إلى خبايا من الرزايا والعاهات لا تقدم ولا تجدى نفعا، ولا تعرف معنى لنهضة، ولا سبيلًا لتقدم، وسنظل -والحال كذلك- دمية في يد الأعداء يوجهون مصيرنا، ويرسمون لنا معالم حياتنا، وفق أهوائهم ومصالحهم!

 

لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، بالدليل القرآني والدليل الحياتي المعاش، إذ أنه صلى الله عليه وسلم خير رسولٍ لخير أمة، وما تأتت الخيرية إلا بعلمٍ من الله تعالى وفضلٍ منه بأن هذه الأمة لا تصلح أبدا أن تُقاد، وأنَّ صلاح العالم ورخاءه إنما يترتب على قيادتها له.

 

هذه النقطة الفائتة - السابقة، أو الفائتة عن وعينا- قُتلت بحثًا ومحاورةً ودراسةً على مستوى عام، إلاَّ أنَّ السيلَ يبلغُ زُباه على المستوى الشخصي والتفاعل الاجتماعي فيما بين محيط الناس الذين تَميَّع لديهم مفهوم القدوة، وتوراى قهرًا لا خجلًا، ولا مناص سوى بإحياء موات القدوات وانبعاثها من جديد لتنفث في الأفراد أرواحًا عديدة ومسارب جديدة، فمن عُدم القدوة، عُدم الحياة!

 

وليست القدوةُ منحصرةٌ في شيخ مسجدٍ، أو عالم، أو خبير، أو معلم، بل القدوة هي ذلك الأمر الذي يُحرك الجميع بأن يقتدوا بعضهم ببعض، فلا يتغافل مسكين عن نقد سفيه ذي أيادٍ باطشة، ولا يتورع عالم عن النصح لولي الأمر وبطانته، ولا يتصاغر من لا يكاد يَبِين عن توجيه الناس لأمر الخير والصلاح، ولا يستنكف ذو مكانة وجاه أن يكون قدوة خير وإرشاد فاعلة في أمور الناس.

 

وما ألطف قول الشاعر:

تعارفُ أرواح الرجال إذا التقوا   ***  فمنهم عدوٌ يتقى وخليل 

 

والمجتمع بدون شرع وقدوة، لا يعدو سوى حالة هائجة من الفوضى والعشوائية، وربما كانت الفوضى هي الأصل في المجتمعات، وإلاَّ لو لم تكن المجتمعات فوضوية بالأساس، لما أرسل الله تعالى رسله، -وهو أعلم حيث يجعل رسالته-، وأنزل شرائعه، وهذه الشرائع والقوانين المكتوبة وغير المكتوبة لابد أن تسري في مجتمع الناس وقلوبهم، سريان النسيم في جميع الأماكن، وليس بعد الرسل سوى ذوي القدوة الصالحة والأمر المتبع.

___________________________________________________

الكاتب: محمد عمر المصري