إعجاز القرآن..مناقشة عقلية
أتى محمدٌ -ﷺ– بالنبوة والرسالة ، وتحدى العرب الأوائل الفصحاء بهذا القرآن أن يعارضوه، وهم الغاية في البيان، وأولوا المعرفة بمواقع الكلام وأجناسه وأساليبه من المنثور والمنظوم، ولهم العادة المشهورة في التفاخر بالبلاغة والفصاحة..
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
أتى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم – بالنبوة والرسالة ، وتحدى العرب الأوائل الفصحاء بهذا القرآن أن يعارضوه، وهم الغاية في البيان، وأولوا المعرفة بمواقع الكلام وأجناسه وأساليبه من المنثور والمنظوم، ولهم العادة المشهورة في التفاخر بالبلاغة والفصاحة، والمعرفة بطرق المعارضات ومزايا المخاطبات، لكنهم عجزوا عن المعارضة مع قدرتهم على جنسها ومثلها، فعدلوا عن هذا المسلك إلى القتال والنزال والحروب وتحمّلوا في هذا ما لم يطيقون، فدل هذا على وجود الدافع لديهم لمعارضة القرآن، لكن الدافع لم يُترجَم إلى فعل، والمعارضة لم تقع، مما يدل على أن سبب عدم المعارضة هو العجز عنها، ومع وقوع هذا العجز منهم، فقد ثبت كون القرآن معجزًا للبشر وأنه من فعل رب العالمين.(1) فهذا هو جوهر الدليل المنطقي الذي يضعه المستدلّ على النبوّة، وليس يتطلّب سوى مناقشته بجديّة.
فإنه إذا ثبت لدينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قد تحدى قومه بالقرآن، وثبت كذلك أنهم عجزوا عن مقابلة هذا التحدي، كان ذلك دليلاً على إعجاز القرآن، وصحة نبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم -.
وعلى الرغم من وضوح هذا الدليل وظهوره، إلا أن المنكرين للنبوة الخاتمة لم يسلموا به وساقوا في سبيل ذلك الاعتراضات والاستشكالات كذريعة لنفي دلالته وحجيته، محاولةً منهم لإبطال دلالته رغم وضوحها وبيانها، فكان من المناسب أن نستقريء اعتراضاتهم ثم نجيب عنها، وها نحن نشرع في سرد تلك الاعتراضات لمناقشتها.
الاعتراض الأول: كيف يكون الكلام – مهما كان فصيحًا وبليغًا – دليلاً على الإعجاز ؟
والجواب أنه كذلك لما نعرف من عادة العرب القدماء – حتى بعد الإسلام - وكيف كانت تجري المعارضات الشعرية بينهم، والأمثلة كثيرة جدًا بين القوم، وهي تدل على أن هذا الضرب من المعارضة والتحدي مألوفٌ لديهم ومعروفٌ بينهم، والدواوين غنيةٌ بمعارضات الشعراء، المشاهير منهم والمغمورين، وما هجائيات جرير والفرزدق عنا ببعيد، فمفهوم التحدي بالقرآن ذاته أمرٌ مألوفٌ يعرفه القوم.
الاعتراض الثاني: لا أقبل إلا معيارًا للتحدي يمكن قياسه كميًا
والجواب هو أن البلاغة علمٌ قياسيٌ منضبطٌ، وليست أمورًا انطباعيّة؛ فإن البلاغة والفصاحة والبيان علومٌ لها قواعدها وأصولها ومعاييرها المستقرة كأي علمٍ آخر، وإنكار وجود هذه العلوم، واعتبار أن البلاغة ليست علمًا قائمًا بذاته، وله علماؤه ومتخصصوه، أمرٌ لا يقول به عاقل.
وهل لا تُعرف الكناية والاستعارة والمجاز والتمثيل ؟
وهل لا يُعرف التقديم والتأخير؟ والحذف والإظهار ؟ والفصل والوصل ؟ والتعريف والتنكير؟
وماذا عن القصر والاختصاص ؟ واستعمالات "الفاء" و"إن" و"إنما"؟
وغيرها من القواعد والأصول والمعايير البلاغية العلمية.. وما زال أهل هذا العلم يشنّعون على من يستعمل تعبيراتٍ غير معياريّة في النقد الأدبي من جنس: (جزالة اللفظ) أو (لفظ متمكنٍ غير قلق) أو: (جيّد السبك صحيح الطابع) أو (لفظ معقّد قد استهلك المعنى) وغيرها من ضروب الكلام الانطباعي غير الموضوعي، الذي لا يقبله علماء البلاغة والفصاحة.
فإخراج البلاغة من ساحة العلوم حتى يسوغ التشكيك في مصداقيتها كمعيار، محاولةٌ بعيدة عن الصواب، هذا مع كوننا لا نستدل بالبلاغة القرآنية مجرّدة، وإنما في سياق برهان أو استدلال منطقي، لماذا ؟
لأن أي معيارٍ قياسي – كمّي أو كيفي - لا يقوم بتقييمه أفراد وعوام الناس، بل يقوم بذلك العلماء الفاهمون المتخصصون، فلو جئتك بالآيات ومواطن البلاغة في القرآن سنظلّ بحاجةٍ إلى العالم المتخصّص لتقييمها والحكم عليها حسب الأصول والقواعد المتبعة، تمامًا كما يفعل العالم في مختبره والطبيب في عيادته؛ فلذلك لم نستدل في هذا البرهان بقواعد العلم لأن القارئ غالبًا غير متخصص، بل استدللنا بمسلك أهل هذا العلم والعارفين به كيف تصرّفوا تجاه التحدي.
الاعتراض الثالث: ما الدليل على أن التحدي قد وقع أصلاً ؟
ونقول لصاحب هذا الاعتراض: إن وقوع التحدي بالقرآن للعرب كان أمرًا مشتهرًا معروفًا، حتى إن الكتاب المتقدمين سلّموا به ولم ينكروه لوضوح أمره، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم -لمّا نزل القرآن كان يقرؤه على المسلم والكافر ولا يكتمه، وفي القرآن تحدٍّ ظاهر في ستة مواضع ليس فيها شبهة، بل الكلام فيها غاية في الوضوح والصراحة، وفي غيرها من المواضع تحدٍّ بالقرآن كذلك، لكن أقل وضوحًا وصراحةً، وهذا كثيرًا جدًا.
وقد علمنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان يتلو القرآن على أصحابه وعلى من يَفِدُ إليه من المشركين -من أحياء العرب وغيرها- مدّةَ ثلاث وعشرين سنة تقريبًا، وقد حفظه خلقٌ من الصحابة، وكانوا يتلونه في محافلهم ومجامعهم، وفي أهليهم وصلواتهم ومدارسهم ومجالسهم، وكان المشركون يسمعون ذلك ويقرع أسماعهم، ويكفي في وقوع التحدّي أن تبْلغهم آيةٌ واحدة، فلا يصح – مع كل هذا - أن يقال: إن التحدي لم يبلغهم، أو أنه لم يقع.
ومما يدل على هذا المعنى ويؤكده، ما بلغنا من نقاشات الملأ من قريش حول القرآن وكلامهم عنه من أنه ليس بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، مما يطول المقال بذكره.
الاعتراض الرابع: ما أدرانا أن القرآن لم يعارضه أحد ؟
وهذا جوابه أنهم لو كانوا عارضوه، لنقلت إلينا كتب التاريخ معارضاتهم؛ إذ الهمم والدواعي توافرت لإبطال هذا الدين بأي سبيل، وكتب التراث قد نقلت لنا كلام مسيلمة الكذاب وطلحة الأسدي، وابن المقفع وابن الرواندي، وغيرهم مع ما فيه من التكذيب بالإسلام والطعن فيه. فكل أمرين كانا في زمن واحد أو زمنين متقدمين، وكانت الدواعي إلى نقلهما متساويةً أو متقاربة، فلا يجوز أن يظهر أحدهما ويفشو نقله ويختفي الآخر؛ لأنهما إذا اجتمعا في السبب الموجب للظهور، فيجب اجتماعهما في الظهور. والقرآن لو كانت له معارضةٌ من مشركي العرب، كانت تكون في زمانٍ مقاربٍ لنزوله، وكانت الدواعي لنقلها كالدواعي لنقل القرآن بل أقوى! لأن المعارضة لو كانت، لكانت هي الحجة، ولصار القرآن هو الشبهة، مما يزيد الدواعي إلى نقلها على القرآن، وهذا واضح لمن تأمّله.
الاعتراض الخامس: ربما تركوا معارضة القرآن تجاهلاً أو استخفافًا بشأنه
وهذا من أبعد الاعتراضات عن الإنصاف؛ فالسيرة النبوية شاهدةٌ صارخةٌ بأن قوم النبي -صلى الله عليه وسلم -قد عاندوه وحاربوه وعذبوا أصحابه ونكلوا بهم، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل إبطال دينه ودعوته، ثم إنهم بعد ذلك جاهدوه بالسيف وبذلوا في سبيل هذا أموالهم وأرواحهم، وتحملوا فتّ الأكباد وتيتيم الأولاد وسبي النساء والذرية، بينما كان بالإمكان الاستغناء عن هذا المسلك الشاق العسر بمعارضة القرآن وتلبية التحدي.
وهذا كلّه يدل على توفر الدافع لديهم لمخالفته ومناوأته، ومعارضته وتلبية التحدي، لكنهم لم يعارضوا القرآن، وسلكوا السبيل الأشق والأعسر، فلماذا إذن؟
الاعتراض السادس: عدم معارضة مشركي العرب للقرآن لا يشترط أن تكون لعجزهم
والجواب أن أي فعل يحتاج إلى اجتماع عاملين: الإرادة والقدرة، وقد ثبت لدينا أنه لم يكن ينقص مشركو العرب الإرادة والدافع لأي عمل ينقض دعوة الإسلام ويهدمها ويزيلها، مهما كان شاقًا وعسيرًا، فالدافع لمعارضة القرآن متوفر، لكن تخلّف الفعل – أي: فعل المعارضة – وما هذا إلا لتخلّف القدرة وحصول العجز عن هذه المعارضة.
والمقصود أن عدم وقوع المعارضة للقرآن، إما أن تكون لعدم وجود الرغبة أو الإرادة؛ أو لعدم توفر القدرة عليها؛ أو لكليهما، فإذا ثبت توفّر الدافع، وعدم وقوع الفعل، لم يبق إلا العجز وعدم القدرة، وبهذا يثبت كون القرآن معجزًا لهم.
الاعتراض السابع: عجز العرب الجاهليّين لا يعني عجز جميع البشر عن معارضة القرآن
والجواب أن سائر البشر هنا لا يخرج عن فئتين: إما العرب الذين جاؤوا بعد السلف الأوائل حتى زماننا هذا، أو الأعاجم من غير العرب.
أما العرب بعد الجاهليين الأوائل، فلا يمكن أن يفوقوا أسلافهم في العربية؛ لأن اللغة العربية، إعرابًا وبلاغةً، كانت ملكةً وسليقةً عند العرب في الجزيرة، فلما جاء الإسلام وأخرجهم من هذه الجزيرة، واختلطوا بالأعاجم، ضَعُفَت هذه الملكة تدريجيًا حتى فسدت تمامًا، وصارت اللغة تُكتسب بالتعلّم والتعليم. فمن أراد أن يبلغ مبلغ فصاحة عرب الجزيرة كان واجبًا عليه أن يحيط بكل هذه اللغة من جميع مصادرها، حتى يصل بالتعلم إلى اكتساب ما كان ملكةً وسليقةً عندهم، فإذا أحاط بكل علوم اللغة عند العرب، جاز له عندئذ أن يشرع في معارضة القرآن.
فاللغة هي الشيء الوحيد الذي لا يُتَصوّر أن يتفوق فيه الخلف على السلف، نعم: يجوز أن يكون علم الخلف أفضل من علم السلف، وحضارة الخلف أرقى من حضارة السلف، وأعمار الخلف أطول من أعمار السلف.. الخ، لكن قطعًا لا يمكن للخلف أن يتفوقوا على السلف في اللغة التي علموهم إياها. فعجوزٌ في بادية العرب في الجاهلية أفصح وأعلم باللغة من المتنبي الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس.
والسرّ في ذلك أن اللغة مفردات اصطلح على معانيها واستعملت في تلك المعاني، وتطاول الزمن من شأنه أن يُنسي بعض المعاني أو يزيد إليها معان جديدة، وفي الحالتين معاً إما أن تصبح اللغة أكثر فقرًا، أو أن تُحرّف.
فهؤلاء العرب في الجاهلية هم الذين بلغوا ذروة البلاغة والفصاحة العربية، ولم يأت بعدهم مثلهم أبدًا؛ هذا خالد بن صفوان يقول: "كيف نجاريهم وإنما نَحْكِيهم؟ أم كيف نُسَابقُهم، وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم؟" (2).
فهاهي الأجيال العربية من بعدهم تسعى لبلوغ فصاحة وبلاغة العرب الأوائل، وتراها هي الذروة. فكيف بما أعجز هؤلاء البلغاء الفصحاء الذين لم يكن يشق لهم غبار ؟
لهذا نقول: إن عجز عرب الجاهلية عن معارضة القرآن يستلزم عجز من دونهم من البشر، وذلك استنادًا إلى أمرٍ عقلي لا يُقاوم وهو قياس الأولى، وحاصله: إن عجز المتأخر في اللغة أولى من عجز المتقدم. وهذا يقطع الطريق على كل احتمال في إمكانية نجاح الأواخر بما لم يستطعه الأوائل. فإنه إذا ثبت عجز البلغاء والفصحاء عن معارضة القرآن، واعترافهم بإعجازه وأنه فوق كلام البشر، علمنا أنه إن كان معجزًا لهؤلاء الفصحاء، فهو لغيرهم أعظم إعجازًا. تمامًا كالملاكم القوي الذي يغلب ملاكمًا من نفس وزنه وحجمه، لن تصمد أمامه امرأةٌ من الجمهور.
وفي ضوء هذا القياس الأولوي قامت الحجة على كل الناس: فالعالمون بالعربية منهم قامت عليهم الحجّة بعجز أسلافهم، والأعاجم قامت عليهم الحجّة بعجز العرب، وهذا قاطع لمن لا يكابر.
ثم هناك وجهٌ آخرٌ لحجة البلاغة على العجم، وتقريره:
إن أهل كل فن هم الأولى بتقرير مسائله؛ فإذا أجمع الأطباء وعلماء وظائف الأعضاء وخبراء الكيمياء الحيوية إجماعًا لا اختلاف فيه أن جزئ الهيموجلوبين في الدم هو المسئول عن لونه الأحمر، كان إجماعهم حجة على جميع الخلق أطباء وغير أطباء، ولا يعقل في هذه الحالة أن يأتي من يزعم - دون الأطباء وأهل الاختصاص - أن لون الدم الأحمر ليس بسبب الهيموجلوبين.
كذلك إذا أجمع الفصحاء والبلغاء أن القرآن معجزٌ في بلاغته وفصاحته، كان إجماعهم حجّةً على عموم البشر. وقد ثبت عجز البلغاء والفصحاء عن قبول تحدّي القرآن، ولم يعارضوا واعترفوا، وعرف إعجازه أهلُ اللسان بسليقتهم، وعرفه العلماء بمهارتهم في فن البيان، وعرفه العوام بشهادة كل هؤلاء، فثبت أنه معجز يقينًا.
فإن ظهر في آخر الزمان واحد - ممن لا يعتد برأيهم - يزعم أن بإمكانه نقض هذا الإجماع قلنا له: ليس لك ذلك، فأنت لست من أهل الفصاحة حتى يعتد برأيك، فما بالك بما أجمعوا عليه؟ وقد خَبِرْنا أعداء الإسلام، وهم من أعدى أعداء العربية، من النصارى والملاحدة والعلمانيين، فوجدناهم ليسوا من أهل اللسان العربي الفصيح أصلاً، وكلامهم تفشو فيه العاميّة الساذجة، ولا يميّزون غالبًا بين الهاء والتاء المربوطة، ولا بين أحوال الفعل المضارع، ولا بين أحوال الأحرف الخمسة، فضلاً عن أن يميّزوا الأبلغ عن البليغ !
يبقى هنا أمرٌ ينبغي استحضاره في هذا المقام:
وهو أن العرب الأولين أدركوا بما لهم من البلاغة والفصاحة واللسان العربي المبين دلالة القرآن على النبوة؛ فهم أدركوا بمجرد سماعه أنه ليس من جنس كلام البشر العادي، وأنه يعلو فوق هذا ويسمو عليه، وأن قائل هذا الكلام لا يمكن أن يكون واحدًا من البشر، فضلاً عن محمد بن عبد الله الذي عاش بينهم دهرًا. لهذا لم يتقدم أحدٌ منهم للمعارضة، وانسحبوا سريعًا من المباراة اعترافًا منهم بالعجز والفشل.
وهذا من جنس ما وقع لسحرة فرعون عندما عاينوا آية موسي عليه السلام؛ فهؤلاء كانوا من أعلم البشر بالسحر، ولا يمكن أن يخفى عليهم شيءٌ فيه، لكنهم لما عاينوا آية موسى، أدركوا على الفور أنها ليست من جنس السحر البشري، بل هي معجزةٌ إلهيةٌ وفعلٌ خارقٌ للعادة وللسحر ولكل أفعال البشر، فخضعوا واستسلموا بمجرد معاينة الآية البينة، لكن فرعون ظل على عناده وظل يحسب أن ما فعله موسى إنما هو من السحر.
وهكذا نرى ملاحدة هذا الزمان؛ لا يرون في القرآن أي دلالة على النبوة، ويرون أنه مجرد كلام عادي، وإنما هو الجهل والعجمة لا أكثر !
____________________________________________________________
هوامش المقال
1- انظر أبي الحسن اليزيدي ، إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ص33.
2- انظر عبد القاهر الجرجاني ، الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز في ذيل كتاب دلائل الإعجاز ص576.
___________________________________________________________
الكاتب: د.هشام عزمي