من محاسن الإسلام العدل في التصرفات
محمد بن صالح العثيمين
أعمال الدنيا نحرص على إدراكها ونتأنى ونتمهل في تنميتها وتكميلها مع أننا نعلم أننا لن نخلد فيها، وأن الأعمال الصالحة هي التي ستبقى لنا ونخلد لها عند حصول ثوابها تجد الكثير يتوانى عن القيام إلى صلاته وإذا قام إليها أداها بسرعة مخلة بها لا يطمئن ولا يتمهل ولا يتدبر..
- التصنيفات: محاسن الأخلاق - - آفاق الشريعة -
الحمد لله اللطيف المنان المتفضل على عباده بأنواع الإحسان علم حال الإنسان فرحمه وشرع الشرع فيسره ولم يكلف الإنسان إلا ما أطاق وهذا غاية الفضل والامتنان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بما شرع لكم من العبادات التي تصلون بها إلى أعلى الدرجات وأكمل المقامات فلقد شرع الله لنا عبادات ميسرة مصلحة للقلب والبدن والدنيا والدين ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها لو تأملنا العبادات البدنية لوجدناها لا تستغرق من أوقاتنا وأعمالنا إلا القليل ولو نظرنا إلى العبادات لرأيناها لا تطلب من مالنا إلا القليل ومع ذلك فإن ثمرات هذه الأعمال القليلة والأموال المبذولة اليسيرة ثمراتها كثيرة كبيرة لأن ثمراتها صلاح الدنيا والآخرة ولك مع هذا كله إذا فكرنا في أمرنا وجدنا أننا نفرط في هذه العبادات ونبالغ في طلب اللذائذ والشهوات.
أعمال الدنيا نحرص على إدراكها وتحصيلها ونتأنى ونتمهل في تنميتها وتكميلها مع أننا نعلم أننا لن نخلد فيها ولن تخلد لنا وأن الأعمال الصالحة هي التي ستبقى لنا ونخلد لها عند حصول ثوابها تجد الكثير يتوانى عن القيام إلى صلاته وإذا قام إليها أداها بسرعة مخلة بها لا يطمئن ولا يتمهل ولا يتدبر ما يقول وربما كان بدنه حاضراً وقلبه غائب يتجول في دنياه فيخرج من صلاته لا يعقل منها شيئاً ولو طلب منه أن يعمل عملاً لدنياه لتمهل فيه وتأنى وحرص على تكميله وتنميقه وأشغل فكره وبدنه لذلك ولو أضاع من أجله الوقت الكثير فهل من العدل والعقل أن يجحف الإنسان بعمل الآخرة ويؤدي عمل الدنيا كاملا مكملا مع أن عمل الدنيا زائل وعمل الآخرة هو الباقي قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].
يطلب من الإنسان أن يؤدي زكاة ماله فيبخل في ذلك ويشح عليه وإذا أخرجها فربما يخرجها على وجه ناقص لا تبرأ به الذمة ولكنه مع ذلك يسهل عليه غاية السهولة أن يبذل المال في أمور دنياه التي ربما كانت وبالا عليه ونقصا في دينه فما أكثر ما يبذل من ماله في الأمور الكماليات التي يترفه بها ويتنعم وما أقل ما يبذله من ماله فيما يجب عليه من زكاة وكفارات ونفقات الأهل والأقارب فهل هذا من العدل والإنصاف.
كثير من الناس يصعب عليه أن يبذل ماله وبدنه في الحج إلى بيت الله ولكنه يسهل عليه أن يبذل ماله وجهده وبدنه في السياحة إلى البلاد يميناً وشمالاً وربما كانت سياحة يغيب بها عن أهله وولده فيضيع عليهم فرصة وجوده عندهم وتأديبه لهم وهكذا كلما نظرنا في أمرنا وجدنا أننا أو الكثير منا مجحفون في أعمال الآخرة مقصرون فيها ومسرفون في أعمال الدنيا ومغالون فيها وليس هذا من العدل قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37] {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].
وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17].
أيها الناس: إنه لم يطلب منكم أن تتركوا أعمال الدنيا كلها ولا يمكن أن يطلب ذلك لأن من ضرورة بقاء الإنسان في الدنيا أن يعمل لها ولكن المطلوب منكم ألا تؤثروها على الآخرة وألا تكون هي أكبر همكم وكأنما خلقتم لها وكأنها دار المقر ولكن خذوا منها بنصيب واعملوا للآخرة على الوجه المطلوب وإذا عملتم لها فأجيدوا العمل وأتقنوه كما كنتم تجيدون العمل للدنيا وتتقنونه فإن لم تفعلوا فقد آثرتم الدنيا على الآخرة وبؤتم بالإثم والخسارة الفادحة اللهم وفقنا لما تحب وترضى وهيئ لنا من أمرنا رشداً واغفر لنا وللمسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.