أجعلتم
الموفق لا يقع ضحية المظاهر؛ وإنما يغوص في الجواهر مستلهمًا من منهج ربنا القادر؛ لتكون قدمه راسخة في الطريق، ويعرف العدو من الصديق.
- التصنيفات: الفقه وأصوله -
روى مسلم في صحيحه عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أُعمِّر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة؛ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] الآية إلى آخرها.[1]
وفي تفسير ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أُسِر ببدر، قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نُعمِّر المسجد الحرام، ونسقي، ونفك العاني، فنـزلت هذه الآية.
ولعل في حديث النعمان أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الآية على عمر، فظنَّ بعض الرواة أنها نزلت للتو، وهي قد نزلت من قبل، والله أعلم.
وفي كل الأحوال فالآية تناقش قضية مهمة؛ وهي منهجية المقارنة بين الأعمال من حيث الأفضلية، وبلا شك الكل يسعى أن يعمل الأفضل، ويحصل على الأجر الأوفر؛ لكن ما معايير الأفضلية؟ وما مصدر تلك المعايير؟
إن المتأمل في حياة البشر عمومًا، وفي عصرنا خاصة، سيدرك بوضوح أن المعايير عندنا غالبًا هي الماديات الظاهرة حتى في الأعمال الصالحة، وهذا ما قاله العباس لعلي رضي الله عنهما بل ما قاله بعض المسلمين بينهم وفي عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وفي مسجده، وحتى عمر رضي الله عنه سكت ولم يجب.
إن سقيا الحاج - أي: تقديم الماء له حيث لا ماء في تلك المنطقة (مكة) - عملٌ عظيم، وأجره جزيل، كما أن عمارة المسجد من حيث العمارة والبنيان، والصيانة والنظافة من الأدران، وغيرها عملٌ لا يقل عظمة، فكيف إذا كان هذا المسجد هو أشرف بقعة على الأرض، والذي تُضاعف فيه الحسنات والصلوات، لا أظن أن هناك من يناقش في شرف تلك الأعمال وأهميتها.
لكنَّ هذين العملين حين وُضعا في الميزان مع الإيمان والجهاد في سبيل الرحمن، طاش بهما، وكأنهما غير موجودين فيه، فالقضية ليست في الأعمال؛ وإنما في المفاضلة بينها، فتلك الأعمال الجليلة حين تقارن بالإيمان والجهاد تختلف النتيجة.
فمن بديع القرآن الكريم قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19]، فالأفضلية ليست بمقاييس البشر التي تعترضها الأهواء، وتتدخل فيها الرغبات، وتعتريها النـزوات والمجاملات، والخوف والرجاء، فيُؤثر نفسه، ويسعى لمصلحته؛ ولكن المقاييس التي لا هوى فيها، والتي ليس فيها إلا العدل المطلق هي مقاييس الله.
والقرآن الكريم حين أراد تبيين الأفضل لم يقل هذا أفضل من ذاك؛ وإنما عبر بما يشير إلى وضوح القضية بلا جدال، فجاءت بصيغة الاستفهام الإنكاري {أَجَعَلْتُمْ} [التوبة: 19]؛ أي: لا مجال للمفاضلة؛ بل عبر عنه المفسر الرازي بقوله: "فذكرُ هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد خطأٌ فادحٌ؛ لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جدًّا بالشيء الحقير التافه جدًّا، وأنه باطل" ا. هـ[2]. وكما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ليس هذا فحسب بل قال: {لَا يَسْتَوُون} [التوبة: 19]، فنفى المساواة، ونبَّه على الراجح بقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [التوبة: 19]، الظالمين لأنفسهم بالكفر، فبوابة قبول الأعمال تحقيق الإيمان، ففي صحيح مسلم عن عائشة أنه قالت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» [3].
أما المؤمنون فهم ظالمون بتلك المقارنة المقيتة، فأين الإيمان والجهاد من العمارة والسقيا؟
وذكر الإيمان مع الجهاد؛ للإيماء إلى أن الجهاد أثر الإيمان، وهو ملازم للإيمان، فلا يجوز للمؤمن التنصُّل منه بعلَّة اشتغاله بسقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، فضلًا عن غيره من الأعمال، وفيه تلميح إلى أنه لولا الجهاد لما كان أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين.
وهكذا رسم لنا القرآن الكريم منهجًا للمقاييس الحقيقية للمقارنة بين الأعمال وتفاضلها، ورسَّخ في أذهاننا أن المقارنات الحقيقية تكون بالتجرُّد من معايير البشرية، والرجوع لمنهج رب البرية، وأيضًا ألا نغتر بزخرفة المظاهر، وننخدع بالماديات وإن كانت صالحة بذاتها، بل أن نكون واعين متيقظين، وننظر إلى حقائق الأمور وجذورها ومعنوياتها.
فيا الله! كم نرى ونسمع من مقارنات مجحفة بالمقاييس القرآنية، لكنها عند الكثير تكون مقدسة، ولو تتبعنا معايير المقارنات في فضائل الأعمال التي نستخدمها لبان لنا غلبة الماديات؛ بل والدفاع المستميت عنها، ويزداد العجب حين نلبسها اللباس الشرعي والتشريع الرباني، فندعي أنها الأقرب إلى الله، ونبني عليها علاقات وقرارات، وربما براءات وولاءات، ولا أظن أنني أحتاج إلى أمثلة بعد المثال القرآني، ومن دقق في حياته ولاحظ أوساطه تيقن من ذلك.
لكن الموفق لا يقع ضحية المظاهر؛ وإنما يغوص في الجواهر مستلهمًا من منهج ربنا القادر؛ لتكون قدمه راسخة في الطريق، ويعرف العدو من الصديق.
[1] صحيح مسلم رقم 1879.
[2] التفسير الكبير للإمام الرازي.
[3] صحيح مسلم، رقم214.
__________________________________________________
الكاتب: د. جمال يوسف الهميلي