رمضان بين الهجرة والهجر
المسلم الحقيقي في رمضان يعيش بين الهِجرةِ والهَجْر؛ حيث يهاجر إلى ربِّه يرجو رحمته وعفوَه ورضوانه، يسعى بكل جهده في تزكية نفسه، والسمو بروحه، وطهارة قلبه، يسارع في فعل الخيرات، ويهجُر المنكرات، والتقصير والإفراط، ويجدِّد التوبة والأوبة...
المسلم في هجرة دائمة إلى الله ورسوله، وهذه الهجرة تحتاج إلى يقظة وهمةٍ عالية ومنهج واضحِ المعالم، وبيئة معينة وصالحة تكون هي نقطةَ البداية لهذه الهجرة، وشهرُ رمضان هو أفضلُ شهور السنة، ومن خلاله يستطيع المسلمُ أن يجدِّد هجرته إلى الله ورسوله؛ ليعيش في رحاب هذه الهجرة طيلة العام كله؛ لذا فهذه الهجرة لا بد أن تتجدَّد مع تجدُّد هذا الشهر، وبداية هذه الهجرة النيةُ الصالحة؛ لأنها أساس كل عمل: «إنما الأعمالُ بالنِّياتِ»، ولو أحسَن العبدُ نيته لكانت أبلَغَ من عمله، والنية وحدها لا تكفي حتى تترجَمَ إلى عمل صالح، وإلا سبح الإنسانُ في بحر الأماني؛ فالكل يتمنى الجنة، بل ويتمنَّى الفردوسَ الأعلى، ويتمنى مجاورةَ الأنبياء والمرسلين والشهداء، ولكن أين الدليلُ على صدق هذا التمني؟!
فالمسلم الحقيقي في رمضان يعيش بين الهِجرةِ والهَجْر؛ حيث يهاجر إلى ربِّه يرجو رحمته وعفوَه ورضوانه، يسعى بكل جهده في تزكية نفسه، والسمو بروحه، وطهارة قلبه، يسارع في فعل الخيرات، ويهجُر المنكرات، والتقصير والإفراط، ويجدِّد التوبة والأوبة، يغسِل ذنوبه بكثرة الاستغفار، وقلبَه بالذِّكر والطاعات؛ فالمسلم في رمضان بين الهجرة والهَجْر، هجرة إلى كل معروف، وهَجْر كل فعل قبيح.
نريد هجرة جديدة في رمضان إلى بيوت الله؛ بتعميرها، وإقامة الصلاة إقامةً تُغيِّر الحياة، وتصنع الرجال، وتغيِّر وجهَ العالم والتاريخ، نريد لبيوت الله أن تشعَّ بالنور والإيمان كما يحدث في أول فجر في رمضان؛ حيث نرى اكتظاظ المساجد بالمصلين، ثم بعد ذلك نرى تدريجيًّا فراغَ المساجد من العمَّار، لتشكو المساجدُ المسلمين لرب العالمين!
نريد هجرة إلى القرآن؛ لنتدبر معانيَه، ونطبِّق أحكامه، فتخشع القلوب لكلام رب العالمين، وتخضع الجوارح وتستكين: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
فليرجع المسلمُ إلى القرآن ونحن في شهر القرآن من قبل أن يشتكينا الرسولُ لرب العالمين: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، هذه شكوى عظيمة، وفيها أعظمُ تخويف لِمَن هجَر هذا القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.
نريد هجرةَ التكافل والتضامن مع الفقراء والمحتاجين والمساكين والعاطلين؛ لنفتح لهم بابَ أملٍ وعمل، ونُنفِق مما آتانا الله من فضله؛ فقراءة القرآن والصيام يدفعان المسلم إلى الجود والكرم، وهذا هو خُلق رسول الله في رمضان وغير رمضان، ولكن كان في رمضان أجود من الريح المرسلة؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه و سلم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخير من الرِّيحِ المرسَلة"؛ (متفق عليه).
نريد هجرةً في رمضان نصل بها الأرحامَ المقطعة؛ حتى لا نتعرَّضَ لِلَعنة الله؛ قال - تعالى -: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22، 23].
نحتاج إلى هجرة الاحتساب بمعناه الشامل والمتكامل عن طريق التواصي بالحق والصَّبر والمرحمة، فليست الهجرةُ إلى الله ورسوله أن تنشغلَ بإصلاح نفسِك فقط، ولكن الهجرة تعني أيضًا انشغالَ المسلم بإصلاح غيره، وهو الاحتساب والتعاون بمعناه العام؛ لأننا أمَّةُ الخير، الأمة التي تحبُّ الخيرَ لنفسها ولغيرها؛ قال - تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وإن اقتصارَ الخيرِ على النفس وعدمَ الاهتمام بالخبث المنتشر بين الناس يؤدِّي إلى ذَهاب كل الخير، فيُحرَم منه الجميع، خرَج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فزِعًا محمَرًّا وجهُه يقول: «لا إله إلا اللهُ، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فُتِح اليومَ مِن ردم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه»، وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت: فقلت: يا رسول الله، أنهلِكُ وفينا الصالحون؟! قال: «نعم؛ إذا كثُر الخبَثُ»؛ (متفق عليه).
فالقائم على حدود الله لا يظن أنه ناجٍ من عذاب الله ومعه مَن يحاول خَرْقَ السفينة؛ عن النعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها كمَثَلِ قوم اسْتَهَموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوْا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرَقْنا في نصيبنا خَرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوْا ونجَوْا جميعًا»؛ (أخرجه البخاري).
ورمضان فرصة عظيمة وباب متَّسِع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصائح والتذكير بالله والتأثر بالمواعظ، فلا نضيع هذه الفرصة، ولنفتح قلوبَنا للناس، ونطلق الألسن في الدعوة إلى الله؛ فرمضان ينادي: يا باغي الخير، أقبِلْ، ويا باغيَ الشرِّ، أقصِرْ!
نحتاج في رمضان إلى هجرة التقارب والتوادِّ والتراحم بين الأسرة المسلمة؛ لنشعر بالمودَّةِ والسكينة في ظل طاعة الله، في ظل الصيام والقيام إيمانًا واحتسابًا، في ظل قراءة القرآن والذِّكر والاستغفار، والصلاة على مَن نزل عليه القرآنُ - صلى الله عليه وسلم.
وأخيرًا نريد هجرةً للاعتصام بكتاب الله الذي كانت بدايته شهرَ رمضان الذي أُنزِل فيه القرآن، ونهايته لعلكم تتقون، ونعتصم بسنَّةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - والسير على طريقته وهديه؛ لتُهدَى الأمَّةُ إلى الصراط المستقيم: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].
____________________________________________________________
الكاتب: د. خالد راتب
- التصنيف: