كيف نستقبل مواسم الخير؟
هذا الشهر المبارك موسم خير، وموسم عبادة، تتضاعف فيه الحسنات، وتفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين...
نحن على مشارف استقبال ضيف عزيز مبارك، يهل علينا مرة كل عام، حاملا معه نسائم الخير والبركة، يطل علينا ببركاته ورحماته، إنها أيام قلائل ويهل ضيف كريم ينتظره ملايين المسلمين في شتى بقاع الأرض، ولكن يختلف الناس في طريقة استقبالهم له، فقد استعد له طائفة بمئات المسلسلات والبرامج، واستعد له البعض بألوان الطعام والشراب، واستعد له البعض بالسلع التجارية التي تشهد رواجا في رمضان ليكون موسما للربح والتجارة، واستعد له طائفة بالتوبة والتخلي عن الذنوب وفتح صفحة جديدة في علاقتهم بربهم؛ لما علموه من خيرات وبركات هذا الشهر الكريم.
قال تعالى: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} }[1]
وقال سبحانه: { {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} }[2]
هذا الشهر المبارك موسم خير، وموسم عبادة، تتضاعف فيه الحسنات، وتفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين» (متفق عليه).
وروى النَّسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين» (وصححه الألباني في صحيح الجامع).
وروى الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في رواية: «إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومَرَدَة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عُتقاء من النار وذلك كل ليلة». (وحسنه الألباني في صحيح الجامع).
أعمار الأمة قصيرة ما بين الستين والسبعين كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين وأقلهم من يجوز ذلك»[3] فعوًض الله الأمة بمواسم الخير كرمضان وعاشوراء ويوم عرفة وليلة القدر والعشر من ذي الحجة ليعوضوا قصر أعمارهم بالطاعة والعبادة في مواسم الخير، متضاعفة حسناتهم متزايدة أجورهم.
نعمة بلوغ رمضان:
وبلوغ رمضان نعمةٌ كبرى، يقدرها حق قدرها الصالحون، ومن الفطنة والعقل استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة فإن أبواب الجنة مفتوحة لنا في هذا الشهر؛ لأنها إن فاتت كانت الخسارة عظيمة، والخاسر حقا من أدرك النعمة ولم يغتنمها، إنها فرصة غالية لكل مقصر ومذنب -وكلنا مقصرون وأصحاب ذنوب- أن نفوز بمغفرة من الله، وعتق من النار، فمن لم يغفر له في رمضان فمتى يرجو المغفرة؟ ومن لم يرحم في رمضان فمتى يرحم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: رَغِمَ أَنْفُ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ».
فرمضان ومواسم الخير فرصة عظيمة، ونعمة كبيرة، ويؤكد ذلك المعنى ما رواه طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ – اسم قبيلة - قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ إِسْلامُهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْ الآخَرِ فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ: «مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ»؟ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ»؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» (رواه ابن ماجه).
ومن فضائل الشهر الكريم أيضا، ما رَوَاه الإِمامُ أحمدُ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أُعْطِيَتْ أمَّتِي خمسَ خِصَال في رمضانَ لم تُعْطهُنَّ أمَّةٌ من الأمَم قَبْلَها؛ خُلُوف فِم الصائِم أطيبُ عند الله من ريح المسْك، وتستغفرُ لهم الملائكةُ حَتى يُفطروا، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جَنتهُ ويقول: يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُواْ عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتُصفَّد فيه مَرَدةُ الشياطين فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون إليه في غيرهِ، ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة، قِيْلَ يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القَدْرِ؟ قال: «لاَ ولكنَّ العاملَ إِنما يُوَفَّى أجْرَهُ إذا قضى عَمَلَه».
ما يجب فعله في استقبال الضيف المبارك:
1- التخلية قبل التحلية، إعلان التوبة لله وترك الذنوب، فقبل الطاعة نترك المعصية حتى نشعر بحلاوة الطاعة، والأمر بالتوبة في كل وقت، لكنه في الأوقات المباركة أشد وجوبا، وفي استقبال مواسم الخير أعظم تأكيدا، لذلك قال سبحانه: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [سورة النور].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».[4]
فالتوبة أعظم واجب للمسلم يستعد به لاستقبال هذا الضيف، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»[5] وفي رواية: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة».
التوبة بشروطها: أن تكون خالصة لله تعالى،الإقلاع عن الذنب فلا تصح توبة من يزعم التوبة وهو مقيم على المعصية، الندم على ما فعل، العزم على عدم العودة، رد الحقوق إلى أصحابها والتحلل منهم.
2-العزم على الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، بالصوم والصلاة على وقتها، وختم القرآن وتدبره، وصلة الرحم، وقيام الليل، والصدقة، والاعتكاف، والدعاء، وغيرها من العبادات المشروعة، ما ستطاع إلى ذلك سبيلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» (البخاري ومسلم).
وأن يكثر من الصدقة والجود في رمضان فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ (البخاري ومسلم).
- عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري ومسلم).
- عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري ومسلم).
- عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (البخاري ومسلم).
3- وأخيرا وليس آخرا الاهتمام بالأسرة في رمضان، وهذا أمر في غاية الخطورة، فبعض الناس يهتم بنفسه وعبادته، ويترك أبناءه وأسرته في رمضان، يتركهم لمن يدبر ويخطط لهم طوال العام بالمسلسلات والبرامج ليشغلهم عن طاعة الله عز وجل،
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بَعْلِها (زوجها) وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (رواه البخاري).
تعليم الأولاد وتعويدهم على الصلاة والصيام والحث عليهما وتذكيرهم بحقيقة الصيام، وأنه ليس فقط الامتناع عن الطعام والشراب، وإنما هو سبيل لتدريب النفس على تقوى الله، وأنه فرصة لمغفرة الذنوب وتكفير الخطايا.
فرصة حقيقية للتشجيع على الصيام، فعلى الأب أن يحثهم ويُشجعهم على الصيام بالمدح والتحفيز لمن أتم صيام الشهر أو نصفه، عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: «مَن أصبح مفطرًا فليتمَّ بقية يومه، فليصُم»، قالت: فكنا نصومه بعدُ ونصوِّم صبياننا الصغار ونذهب بهم إلى المساجد، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار. (رواه البخاري ومسلم). قال النووي: وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات، وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلفين.
تعليمهم آداب الطعام والشراب، وتذكيرهم بحرمة الإسراف والتبذير، والتذكير بحال الفقراء الذين لا يجدون لقمة يسدون بها جوعهم، والتذكير بشكر النعمة والحفاظ عليها.
وتذكيرهم بصلاة القيام والاستعداد لها لأدائها في المسجد، وتعليمهم أهمية صلاة الفجر والاهتمام بصلاة الفجر في وقتها جماعة في المسجد للمكلفين بها، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر أنه يحيي ليله ويوقظ أهله.
[1] البقرة183
[2] البقرة185
[3] مسند الشهاب 1/174أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمون القضاعي المصري (المتوفى: 454هـ) ت حمدي بن عبد المجيد السلفي الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
الطبعة: الثانية، 1407 - 1986عدد الأجزاء: 2
[4] صحيح مسلم1/209مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ) ت: محمد فؤاد عبد الباقي الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت عدد الأجزاء: 5
[5]صحيح البخاري 8/67محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي(6307) ت: محمد زهير بن ناصر الناصر الناشر: دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)الطبعة: الأولى، 1422هـ عدد الأجزاء: 9
_____________________________________________
الكاتب: محمد عبدالباقي
- التصنيف:
- المصدر: