من أقوال السلف في التوبة -1
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
** قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب, وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب.
- التصنيفات: التوبة -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فقد أمر الله عز وجل عبادة بالتوبة, فقال سبحانه وتعالى: ﴿ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ﴾ [النور:31] قال العلامة العثيمين رحمه الله: إن التوبة من مقتضيات الإيمان, وأن من فرط فيها فهو دليل على نقص إيمانه.
فعلى كل مسلم حريص على تمام إيمانه وكماله أن يبادر بالتوبة من جميع الذنوب والمعاصي, ولا يسوف في ذلك, فالإنسان لا يعلم متى يأتيه الأجل.
للسلف أقوال في التوبة, جمعت بفضل الله بعضاً منها, أسأل الله الكريم أن ينفع بها
منزلة التوبة وأهميتها:
** قال الإمام النووي رحمه الله: التوبة أهم قواعد الإسلام, وهي أول مقامات سالكي طريق الآخرة.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: منزلة التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها, فلا يفارقه العبد, ولا يزال فيه إلى الممات, وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به, ونزل به, فالتوبة هي بداية العبد ونهايته, وحاجته إليها في النهاية ضرورية, كما حاجته إليها في البداية كذلك.
وقال: التوبة من الذنب كشُربِ الدواء للعليل.
وقال: لأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا, فإن لم تفِ بطهرهم طُهروا في نهر الجحيم يوم القيامة: نهر التوبة النصوح, ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها, ونهر المصائب العظيمة المكفرة.
فضل التوبة:
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: يدل على فضل التوبة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»
** قال العلامة السعدي رحمه الله: قوله تعالى: {فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} [التوبة:74] لأن التوبة أصل لسعادة الدنيا والآخرة.
معنى التوبة:
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: ومن معناها: ترك المعاصي في الحال, والعزم على تركها في الاستقبال, وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال, وأما التندم على ما سبق فواجب, وهو روح التوبة.
** قال العلامة السعدي رحمه الله: لا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة, وهي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً.
شروط التوبة:
قال الإمام النووي رحمه الله: التوبة واجبة من كل ذنب. فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية.
الثاني: أن يندم على فعلها.
الثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً
فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة, وأن يبرأ من حق صاحبها, فإن كانت مالاً أو نحوه ردّهُ إليه, وإن كان حد قذف ونحوه مكّنه منه, أو طلب عفوه.
وجوب التوبة على الفور:
قال الإمام الغزالي رحمه الله : اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار والآيات, قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31] وهذا أمر على العموم,
والأخبار والآثار في ذلك لا تحصى, والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها.
أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه, إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان, وهو واجب على الفور.
المعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان, فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم, وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى التوبة, قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم, ولا ينفع بعده الاحتماء, فلا ينجح بعد ذلك نصح الناصحين, ووعظ الواعظين.
التوبة النصوح, والتوبة الصادقة الصحيحة:
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: قال تعالى: ﴿ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا } ﴾ [التحريم:8] ومعنى النصوح: الخالص لله تعالى.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات: منها : أنه لا يزال الخوف مصاحباً له, لا يأمن طرفة عين, فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: {ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كُنتم تُوعدون} [فصلت:30] فهناك يزول الخوف.
ومنها: أن يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبل التوبة
ومن موجبات التوبة الصحيحة كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء, ولا تكون لغير التائب, تكسر القلب بين يدي ربه كسرةً تامة قد أحاطت به من جميع جهاته, وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً.
ما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة ! وما أسهلها باللسان والدعوى ! وما عالج الصادقُ شيئاً أشقَّ عليه من التوبة الصادقة الخالصة, فلا حول ولا قوة إلا بالله.
** قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّه} أي: لا لمقصد غير وجهه من سلامة من آفات الدنيا أو رياء وسمعة أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة
** قال العلامة العثيمين رحمه الله: علامة التوبة المقبولة أن الله سبحانه وتعالى يشرحُ صدر المرء ويُنيرُ قلبهُ, ويرى أنه أسقط عنهُ حملاً ثقيلاً كان عليه.
النجاة من غضب الله بالتوبة النصوح وكثرة الاستغفار:
قال محمود بن والان: سمعت عبدالرحمن بن بشر، سمعت ابن عيينة يقول: غَضَبُ الله داء لا دواء له، قلت: دواؤه كثرة الاستغفار بالأسحار، والتوبة النصوح.
من أصبح وأمسى من غير توبة فهو على خطر عظيم:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: من أصبح أو أمسى على غير توبة فهو على خطر, لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب فيحشر في زمرة الظالمين, قال الله تعالى:{وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الحجرات:11]
تأخير التوبة قبيح في حال الشباب, وفي حال المشيب أقبح وأقبح:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: تأخير التوبة في حال الشباب قبيح وفي حال المشيب أقبح وأقبح.
الشقي الذي لا يوفق للتوبة, وأقبح منه المنتكس:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ...من لا يوفق لتوبة نصوح بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصراً عليها, وهذه حالة الأشقياء.
وأقبح من ذلك: من يسر له في أول عمره عمل الطاعات ثم ختم له بعمل سيء حتى مات عليه, ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى, وأصعب منه الضلالة بعد الهدى, والمعصية بعد التقى.
كم من شارف مركبه ساحل النجاة, فلما هم أن يرقى لعب به موج الهوى فغرق.
من صدق في التوبة أعانه الله:
** قال أبو سليمان الدارني رحمه الله: من صدق في ترك شهوة أذهبها الله من قلبه
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لا تستصعب مخالفة الناس والتحيُز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك, فإن الله معك, وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك, وإنما امتحن يقينك وصبرك
إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله, فأما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله, فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة, ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب ؟ فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة.
** قال العلامة السعدي رحمه الله: من أشبه آدم بالاعتراف, وسؤال المغفرة, والندم, والإقلاع إذا صدرت منه الذنوب, اجتباه ربه وهداه, ومن أشبه إبليس إذا صدر منه الذنب, لا يزال يزداد من المعاصي فإنه لا يزداد من الله إلا بعداً.
النظر في مرآة التوبة:
قال إبراهيم بن أدهم: إذا أدمنت النظر في مرآة التوبة بان لك شين قبح المعصية.
أكذب الناس:
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أكذب الناس العائد في ذنبه.
المبادرة بالتوبة قبل المرض والموت:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: روى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [النساء:17] قال: قبل المرض والموت, وهذا إشارة إلى أن أفضل أوقات التوبة, وهو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتى يتمكن حينئذٍ من العمل الصالح, ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن.
التوبة صفاء للقلب:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته.
الخوف من الله دافع إلى التوبة من الذنوب:
قال بكر بن عبدالله المزني: إن رجلاً أولع بجارية لبعض جيرانه, فأرسلها مولاها إلى حاجة لهم في قرية أخرى, فتبعها, فراودها عن نفسها, فقالت: لا تفعل, لأنا أشدُّ حبّاً لك منك, ولكني أخاف الله, قال: فأنت تخافينه, وأنا لا أخافه, فرجع تائباً.
محافظة التائب على سبب توبته:
قال الإمام النووي رحمه الله: يستحب لمن تاب بسبب من الخير, أن يحافظ على ذلك السبب فهو أبلغ في تعظيم حرمات الله, كما فعل كعب في الصدق. والله أعلم.
ستر التائب على نفسه:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: جمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقرَّ به عند أحد, بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل
التوبة تعجن بمعجون يعجن من حلاوة العلم, ومرارة الصبر:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء....ولا سبب للإصرار إلا الغفلة والشهوة, ولا يضاد الغفلة إلا العلم, ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة, والغفلة رأس الخطايا, فلا دواء إذن للتوبة إلا معجون يعجن من حلاوة العلم, ومرارة الصبر.
الطريق الذي يسلكه الواعظ مع الخلق:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: فإن قلت: فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق ؟ فاعلم أن ذلك يطول...ونشير إلى الأنواع النافعة في حل عقد الإصرار, وحمل الناس على ترك الذنوب, وهي أربعة أنواع:
الأول: أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين, وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار. والأخبار والآثار في ذم المعاصي ومدح التائبين لا تحصى.
الثاني: حكايات السلف الصالح وما حرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم, فذلك شديد الوقع, ظاهر النفع في قلوب الخلق.
الثالث: أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب, وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته.
والأخبار كثيرة في آفات الذنوب في الدنيا من الفقر والمرض وغيره.
أما المطيع فمن بركة طاعته أن تكون كل نعمة في حقه جزاء على طاعته, ويوفق لشكرها, وكل بلية كفارة لذنوبه, وزيادة في درجاته.
الرابع: ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب, كالخمر والزنا والسرقة والقتل والغيبة والكبر والحسد.
التوبة من الذنوب سبب لرحمة الملوك برعيتهم:
قال مالك بن دينار: قرأت في الحكم, إن الله تعالى يقول: أنا ملك الملوك, قلوب الملوك بيدي, فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة, ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة, فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك, ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم.
التوبة ليست مجرد قول باللسان:
** قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب, وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب.
** قال العلامة العثيمين رحمه الله: التوبة التي تردُ على الألسن كثيراً ما أكثر ما نقول وما أكثر ما يُقال: أستغفر الله وأتوب إليه! والتوبة ليست مجرد قول باللسان بل التوبة إنابة وإقبال على الله عز وجل وهرب من معصيته إلى طاعته, ولهذا نقول: التوبة الرجوع من معصية الله إلى طاعته, هذه هي التوبة, فإذا كنت في ترك واجب فالتوبة فعل الواجب, وإذا كنت في فعل محرم فالتوبة الإقلاع عن ذلك المحرم وأما من قال في ترك الواجب: أتوب إلى الله وهو مصر على تركه, فهو كاذب في توبته, بل هو إلى الاستهزاء بالله أقرب منه إلى التوبة إلى الله كيف تقول: أستغفر الله من ترك الواجب وأنت مضيع للواجب لم تقم به ؟ ومن قال في فعل محرم: أتوب إلى الله منه, وهو مُصر عليه فهو إلى الاستهزاء بالله أقربُ منه إلى التوبة إلى الله كيف تقول: اللهم إني أتوب إليك من فعل محرم وأنت متلبس به ؟لو كنت مُخاطباً بشراً مثلك, نهاك عن شيءٍ وقلت له : أتوب إليك من هذا الشيءِ وأنت مُصر على معصيته على هذا الذي نهاك عنه لقال :إنك تستهزئُ بي فكيف بربِّ العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.