من أقوال السلف في الموت وأحوالهم عند الاحتضار -1
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: لا شدة يلقاها المؤمن في الدنيا أعظم من شدة الموت, وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إلى خير, وإن كان مصيره إلى خير فهي آخر شدة يلقاها.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالموت نهاية كل حي لا محالة, يقول الله تعالى: { إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر:30] ولو حاول الإنسان الفرار منه فلن يستطيع, يقول الله عز وجل: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة:8] فالموت سيأتي عاجلاً أو آجلاً, ولو كان الإنسان في أشدّ الحصون, قال عز وجل:﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةۗ﴾ [النساء:78]
فطوبى لمن كان للموت ذاكراً, وله عاملاً, لم تشغله الدنيا عن الاستعداد له.
للسلف أقوال في الموت, جمعت بفضل الله بعضاً منها, أسأل الله أن ينفع بها.
- كفى بالموت واعظاً:
** كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون, وروحوا فإنا غادون, موعظة بليغة, وغفلة سريعة, كفى بالموت واعظاً, يذهب الأول فالأول, ويبقى الآخر لا حلم له.
وقال رضي الله عنه: كفى بالموت واعظاً, وكفى بالدهر مفرقاً, اليوم في الدور, وغداً في القبور
** قال الحسن بن عبدالعزيز بن ضابيء رحمه الله: من لم يردعه القرآن والموت, ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع.
- غفلة الإنسان عن الموت:
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له من العجب, والموجب لها طول الأمل.
** قال محمد بن عبدالله بن عيسى الإليبري:
الموت في كل حين ينشر الكفنا ونحــــن في غفـــــــلة عما يـــــــراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وزخرفهــــــا وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعــــــلوا أين الذين هم كانوا لنا سكــــــــــنا
سقاهم الدهر كأساً غير صافية فصيرتهم لأطباق الثرى رهــــــــــــــنـا
- المنهمك في الدنيا غافل عن ذكر الموت:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن المنهك في الدنيا, المكب على غرورها, المحب لشواتها, يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره, وإذا ذُكر به كرهه, ونفر منه. قال الله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] وأما التائب...يكثر من ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية, فيفي بتمام التوبة.
- الاستعداد للموت
** قال سلمة بن دينار رحمه الله: كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مُت.
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الواجب على العبد الاستعداد للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة والمبادرة إلى ذلك.
** قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة » له فوائد: منها: أن يبيت على طهارة لئلا يبغته الموت فيكون على هيئة كاملة, ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب لأنه أولى من طهارة البدن.
طرق لذكر الموت:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن الموت هائل, وخطره عظيم, وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم فيه, ومن يذكره, ليس يذكره بقلب فارغ, بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا, فلا ينجع ذكر الموت في قلبه, وأنجع طريق فيه أن يكثر ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله, فيتذكر موتهم, ومصارعهم تحت التراب, ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم, ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم, وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم.
ومهما تذكر رجل رجلاً وفصل في قلبه حاله, وكيفية موته, وتذكر نشاطه, وتردده وتأمله للعيش والبقاء, ونسيانه للموت, وانخداعه بمواتاة الأسباب, وركونه إلى القوة والشباب, وميله إلى الضحك واللهو, وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع, والهلاك السريع. وأنه كيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه, وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه, وكيف كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه في وقت إليه, حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه, فانكشفت له صورة الملك, وقرع سمعه النداء, إما: الجنة, وإما: النار, فعند ذلك ينظر في نفسه أنه مثلهم, وغفلته كغفلتهم, وستكون عاقبته كعاقبتهم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: السعيد من وعظ بغيره.
فملازمة هذه الأفكار وأمثالها, مع دخول المقابر, ومشاهدة المرضى, هو الذي يجدد ذكر الموت في القلب, بحيث يصير نصب عينيه.
ومهما طاب قلبه بشيء من الدنيا, ينبغي أن يتذكر في الحال أنه لا بد له من مفارقته نظر ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها ثم وقال: والله لولا الموت لكنت بك مسروراً ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا. ثم بكى بكاء شديداً.
إذا ذُكِرَ الموتى فعدّ نفسك كأحدهم:
** أبصر أبو الدرداء رضي الله عنه رجلاً في جنازة, وهو يقول: من هذا ؟ فقال أبو الدرداء: هذا أنت, يقول الله عز وجل: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر:30]
وقال رضي الله عنه: إذا ذكرت الموتى فعد نفسك كأحدهم.
** عن سعيد بن عامر عن جده عن الحسن رحمهم الله: كان رجل من المسلمين يبلغه موت أخ من إخوانه, فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون, كدت والله أن أكون أنا السواد المختطف, فيزيده بذلك جداً واجتهاداً, فيلبث بذلك ما شاء الله, ثم يبلغه موت الأخ من إخوانه فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون, كدت والله أن أكون أنا السواد المختطف, فيزيده الله بذلك جداً واجتهاداً, قال: فردد الحسن هذا الكلام غير مرة, فوالله ما زال كذلك حتى مات موتاً كيساً.
** قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: إذا ذكرت الموت, فاجعل نفسك كأحدهم: فلان رحمه الله, فلان مات, صلينا على جنازة, حضرت عزاء, أين حركة القلوب بالموت؟ لو صحت القلوب لما جاء ذكر الموت إلا وقد اضطربت القلوب من خشية الله عز وجل.
- نُذر الموت:
** عن وهب رحمه الله قال: ينادي مناد: أبناء الستين: عدوا أنفسكم في الموتى.
** قال سفيان الثوري رحمه الله: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ نفسه كفناً
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: من لم ينذره باقتراب أجله وحي, أنذره الشيب وسلب أقرانه بالموت.
- الإكثار من ذكر الموت:
** قال الربيع بن خثيم رحمه الله: أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم تذوقوا قبله مثله.
** علي بن الحسين بن المبارك, ما كان لسانه يفتر عن ذكر الموت.
** قال ابن اللباد: إذا حدث لك فرح بالدنيا, فاذكر الموت, وسرعة الزوال....وإذا اعترتك غفلة فاستغفر, واجعل الموت نصب عينيك.
** قال الإمام ابن حبان رحمه الله: الواجب على العاقل...لزوم ذكر الموت على الأوقات كلها، وترك الاغترار بالدنيا في الأسباب كلها؛ إذ الموت رحى دوَّارة بين الخلق، وكأس يُدار بها عليهم، لا بد لكل ذي روح أن يشربها، ويذوق طعمها، وهو هادم اللذات، ومنغِّص الشهوات، ومكدِّر الأوقات.
العاقل لا ينسى ذكر شيء هو مترقِّب له، ومنتظر وقوعه، من قدم إلى قدم، فكم من مُكرم في أهله، مُعظَّم في قومه، مُبجَّل في جيرته، لا يخاف الضيق في المعيشة ولا الضنك في المصيبة، إذ ورد عليه مذلل الملوك، وقاهر الجبابرة، وقاصم الطُّغاة، فألقاه صريعًا بين الأحبَّة، مفارقًا لأهل بيته وإخوانه، لا يملكون له نفعًا، ولا يستطيعون له دفعًا، فالعاقل لا يغتر بحالة نهايتها تؤدى إلى ما قلنا، ولا يركن إلى عيش مغبته ما ذكرنا، ولا ينسى حالة لا محالة هو مواقعها، وما لا شك يأتيه؛ إذ الموت طالب لا يعجزه المقيم، ولا ينفلت منه الهارب.
** قال الإمام الغزالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكثروا من ذكر هاذم اللذات» ومعناه نغصوا بذكره اللذات حتى ينقطع ركونكم إليها فتقبلوا على الله تعالى
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكر الموت. فقال: «أكثروا ذكر هادم اللذات» يعني: الموت.
فوائد ذكر الموت:
** قال أبو الدرداء رضي الله عنه: من أكثر ذكر الموت قلَّ فرحه, وقلَّ حسده.
** قال كعب الأحبار رضي الله عنه: من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وغمومها.
** قالت صفية رضي الله عنها: إن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها, فقالت: أكثري من ذكر الموت يرق قلبك, فرق قلبها, فجاءت تشكر عائشة
** قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: من أكثر ذكر الموت اجترأ من الدنيا باليسير, إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك بُغِض إليك كل فان, وحُبب إليك كل باق,...أكثر ذكر الموت, فإن كنت في ضيق من العيش وسَّعه عليك, وإن كنت في سعة من العيش ضيقة عليك.
** قال أحمد بن حنبل: إذا ذكرتُ الموت هان عليًّ كل شيء من أمر الدنيا, وإنما هو طعام دون طعام, ولباس دون لباس, وإنها أيام قلائل.
** قال الحسن رحمه الله: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رؤى ذلك في عمله, ولا طال أمل عبد قط إلا أساء العمل. وقال: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحاً.
** قال ابن عجلان رحمه الله: من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها
** قال سفيان الثوري رحمه الله: كفى بكثرة الموت زهداً في الدنيا ومرغباً في الآخرة.
** قال الأوزاعي رحمه الله: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير.
** قال بشر بن الحارث الحافي رحمه الله: إذا اهتممت لغلاء السعر فاذكر الموت, فإنه يذهب عنك هم الغلاء.
** قال يحيى بن معاذ رحمه الله: من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله, ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير, أولها: المبادرة إلى التوبة.
الثاني: القناعة برزق يسير.
الثالث: النشاط في العبادة.
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: في ذكر الموت ثواب وفضل, فإن المنهمك يستفيد بذكر الموت, التجافي عن الدنيا, إذ ينغص عليه نعيمه, ويكدر عليه صفو لذته
وذكر الموت يوجب التجافي عن دار الغرور, ويتقاضى الاستعداد للآخرة, والغفلة عن الموت تدعو إلى الانهماك في شهوات الدنيا.
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: في الإكثار من ذكر الموت فوائد منها:
أنه يحث على الاستعداد له قبل نزوله, ويقصر الأمل, ويرضي بالقليل من الرزق, ويزهد في الدنيا, ويرغب في الآخرة, ويهون مصائب الدنيا, ويمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا
- بغتة الموت:
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: الموت يأتي بغتة, فمن يزرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة, ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة, ولكل زارع مثل ما زرع
شدة الموت للمؤمن إما زيادة في حسناته أو تكفير لسيئاته:
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة...فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات في الحديث أن شدة الموت لا تدل على نقص المرتبة بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته وإما تكفير لسيئاته.
سكرات الموت وشدته:
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها, لكان جديراً بأن يفارقه سهوه وغفلته, وحقيقاً بأن يطول فيه فكره, ويعظم له استعداده...وشدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها. والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه, حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشرة في أعماق البدن, إلا وقد حلّ به الألم, فلا تسل عن بدن يجذب من كل عرق من عروقه, ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً, ولكل عضو سكرة بعد سكرة, وكربة بعد كربة, حتى يبلغ بها الحلقوم....فلا تسأل عن طعم مرارة الموت, وكربه عند ترادف سكراته.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده قدح من ماء عند الموت, فجعل يدخل يده في الماء, ثم يمسح به وجهه, ويقول: « اللهم هوّن عليّ سكرات الموت»
فهذه سكرات الموت على أولياء الله, فما حالنا ونحن المنهمكون في المعاصي.
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: لا شدة يلقاها المؤمن في الدنيا أعظم من شدة الموت, وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إلى خير, وإن كان مصيره إلى خير فهي آخر شدة يلقاها.
- عدم تغير جسم الميت بعد الموت يدلُّ على صلاح صاحبه:
قال العلامة العثيمين رحمه الله: لو قال قائل: هل فناء الجسم أو بقاؤه دليل على الصلاح؟ فالظاهر أن بقاءه يدل على الصلاح؛ لأنه ما يبقى إلا كرامة؛ لأن الأصل أن الأجسام تأكلها الأرض إلا الأنبياء، فإنهم لا تأكلهم الأرض، وفناؤه لا يدل على أن الإنسان ليس من أهل الخير لكن بقاء الجسم قد يقع كرامة لبعض أهل الخير.