الصومُ مدرسةُ الأخلاق
منذ 2022-04-06
قال أبي حامد الغزالي: صوم العموم: إنه كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة،- صوم الخصوص: إنه كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن ارتكاب الآثام،- صوم خصوص الخصوص: إنه صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية.
روى البخاريُّ ومسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «..الصيام جنة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتلة أو شاتمة فليقل: إني صائم.. إني صائم، والذي نفسي بيده لَخُلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزى به الحسنة بعشر أمثالها..».
ولنُجوّل في معنى الحديث السابق حتى نقف على بعض هذه الصور من الأخلاق والأساليب التربوية الراقية، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- (الصوم جنة) هذه أولى مظاهر التربية الإسلامية؛ إذ إن الصوم جُعل وقاية للصائم من الضلال ومن المعاصي ومن الزيغ، وحصنا منيعاً له من النار؛ لأن الصوم أدعى إلى التوبة وإلى طاعة الله عز وجل والانقياد إلى ما يرضى الله؛ لأنه هو السر العظيم بين العبد وخالقه.
في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن عبد الله بن مسعود: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن شباب لا نقدر على شيء؛ فقال: «يا معشر الشباب عليكم بالباءة؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع منكم الباءة فعليه بالصوم؛ فإن الصوم له وجاء» اللفظ للترمذي، ((والباءة)) كناية عن النكاح، ومعنى (وجاء) أي كسر شديد يذهب بشهوته.
أعظم صور التربية والأخلاق:
للإمام أبي حامد الغزالي –رحمة الله عليه– رأي في حقيقة الصوم أورده في كتابه «إحياء علوم الدين» إذ قسّم الصوم إلى ثلاث درجات صوم العموم.. وصوم الخصوص.. وصوم خصوص الخصوص، وقال عن صوم العموم: إنه كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.. وقال عن صوم الخصوص: إنه كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن ارتكاب الآثام.. وقال عن صوم خصوص الخصوص: إنه صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية.
والأنسب لشرف الصوم وسمو مكانته أن يكون مفهومُه مستوعباً ذلك كله.. إذ الصوم بمعناه الحقيقي إمساكٌ عن كل ما حرم الله من قول أو فعل أو تفكير.. إمساكُ النفس عن المعاصي والشهوات، وكبح جماحها عن الشطط والانحرافات وإمساك الجوارح عن كل ما فيه إضرار بالناس أو إغضاب لله.. وإمساكُ الخواطر عن التفكير إلا فيما يرضي رب العالمين؛ لأن الطهر اللازم للصوم يحتم أن يضع المرءُ نصبَ عينيه لكمال صيامه ما أفاده الذكرُ الحكيم من قول رب العالمين: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
وعلى هذا.. فإن الصوم ليس الهدفُ منه مجرد الجوع والظمأ وحبس النفس عن شهواتها كما تعود ذلك الكثيرون من الناس الذين لم يراعوا للصوم آدابه، ولم يتفهموا أهدافه، ولم يتبينوا مقاصده، ولم يدركوا أصوله.. فكان صومُهم أشبه بكلام الببغاء، أشبه بحركة آلية.. لم تصل إلى قرار النفس، ولم تمازج شَغاف القلب، ولم تختلط بالوجدان، ولم تؤثر في السلوك.. فالصوم.. يهدف إلى ما هو أسمى من ذلك وأعظم.. إذ هو مدرسة للتربية على الجلد والصبر؛ يحارب الصائم فيه نزواتِه في معركة ضارية شرسة مع أهوائه ونزعاته.. طامعاً في أن ينتصر بنفسه على نفسه.. يزكيه عقلُه ويحفزه دينُه.. فطعامُه بين يديه وشرابه ليس بعيداً عليه، وزوجته قريبة منه.. ونفسه تسوّل له أن يسد جوعته، وأن يروى غلته، وأن يطفئ ظمأه ويقضي شهوته.. ولكنه أمام كل هذه الشهوات المغريات يصارع أهواءه، ويحارب شيطانه، وكلما استهواه ذلك عاود الصراعَ من جديد بعزم شديد وإرادة من حديد، وبدافع من دينه ووازع من ضميره وسند من يقينه، فتتربى فيه الإرادةُ القوية والعزيمة الراسخة الصادقة.. فلا يتسرب اليأسُ إلى نفسه، ويدب الخور والضعف فى إرادته، وإنما يحمل راية الكفاح يدعمه طموحُه، ويواصل الجهاد يسانده ثباته، وتلازمه تقواه..
وإذا ما تمكن الإنسانُ من الانتصار على نفسه هان عليه الانتصارُ على عدوه وخصمه؛ فالنفسُ ميدان الجهاد الحقيقي والأعظم للإنسان، والإنسانُ إذا ما جاهد نفسه وأمسك بزمام هواه وتحكم في ميله ورغباته، وسيطر على مداخل الشر في باطنه، فإنه بذلك يكون قد حقَّق أعظمَ انتصار!!
قال ابن قيم الجوزية في كتابه (زاد المعاد): وللصوم تأثيرٌ عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوة الباطنة وحمايتها عن التخليط الجالب لها المفاسدَ التي إذا استولت عليها أفسدتها واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها؛ فالصوم يحفظ على الجوارح صحتَها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
هذه بعضُ جوانب التربية الروحية والنفسية والجسدية والعقلية المتمثلة في الصوم وأسراره، فالحمدُ لله الذي أعظم على عباده المنةَ إذ جعل الصومَ حصنًا لأوليائه، وجنة لهم من الشرور والآثام، وفتح لهم أبوابَ الجنة، وعرّفهم بأن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات، وبقمعها تصبحُ النفسُ المطمئنةُ قوية الشوكة، ويكفي ما وعدنا الله به على لسان رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه».
من أخلاق الصائم الورع:
منذ فُرِض الصيامُ في العام الثاني للهجرة النبوية والمسلمون -أفراداً وجماعاتٍ وأممًا- يتنافسون في تحصيل الخير فيه، ويحرصون على نيل رضا الله في شهر الصيام، ولما كانت الغايةُ في الصيام هي التقوى وهي جماع كل خير، فدونك أهمَّ ما يجب أن تلتزم به النفوسُ في صومها كي تتحقق لها تقواها ويتأكد لها ورعُها وتشملها خشيةُ الله ظاهراً وباطناً:
أولاً: غض البصر وحفظه عن كل ما حرَّم الله، وعن كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله، وما أكثر ما يلهي ويصد عن ذكر الله في تلك الحياة التي أخذ الشيطانُ فيها على عاتقه أن يضل عباد الله ويمنيهم بالأماني الكاذبة حتى لا يوجد أكثرهم وهم شاكرون.
ثانياً: حفظ اللسان عن الهذيان والفحش والجفاء والمراء، والخصومات ولغو الكلام، وإلزامه السكوت إلا عن ذكر الله والكلمة الطيبة، وتلاوة القرآن والنصح لكل مسلم، وأن ينشغل بكل نافع حتى يكون غرسه الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، حتى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ثالثاً: كف السمع عن الإصغاء لكل ما هو مكروه؛ لأن كل ما حرُم قوله حرُم الاستماع إليه، ولقد سوّى الله تعالى بين المستمع للحرام والآكل له؛ فقال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، ونهانا أن نقعد مع الذين يخوضون في آيات الله ويستهزئون بها حتى لا نكون مثلهم فقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
رابعاً: كف بقية الجوارح عن الآثام وعن المكاره، وكف البطن والفرج عن الحرام؛ إذ إن هذه الأعضاء هي ودائعُ الله الغالية التي استودعها الله عند العبد، ومقتضى الحياء من الله تعالى أن يستخدمها العبدُ فيما خلقت من أجله، وهى ما خلقت إلا للعبادة؛ كما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «استحيُوا من الله حقَّ الحياء» ، قلنا: إنا نستحيي من الله يا رسول الله –والحمد لله– قال: «ليس ذلك، الاستحياءُ من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» (رواه الترمذي وضعفه).
خامساً: أن تعلق النفوس قلوبها بين الخوف والرجاء؛ فإن أحداً لا يدري أقُبِل صومه أم رُدّ عليه، والله تعالى هو القائل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 47-48]، وهو الذي يقول في كتابه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103].
سادساً: أن تحرص كل نفس على أداء ما افترض عليها من ربها وما أرشدها إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألا ترى لذلك مِنّة لها، بل عليها أن ترجو القبول من الله، وتخشى على عملها الحبوط من حيث لا تشعر.
ولقد كان من سبقونا يعملون وهم على خوف ووجل خشيةَ ألا تقبل أعمالُهم وأن ترد عليهم، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60-61]. قالت: يا رسول الله، أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون ويخافون ألا تقبل توبتهم؟ قال لها: «لا يا ابنة الصديق، بل هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخافون ألا يقبل منهم»، (رواه الترمذي).
- التصنيف: