رمضان.. شهر الصيام والقيام والتغيير
كان الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح يعمّرون المساجد ليالي رمضان بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، ولهم في ذلك دوي كدوي النحل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فلقد فرض الله هذا الشهر المبارك في السنة الثانية من الهجرة يوم نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].. ومات النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام بعد أن صام تسعة رمضانات..
وهذه الفريضة ليست من خصائص الإسلام، فقد فُرضت على من كان قبلنا كما دلت عليه الآية السابقة[1]، وهو (أي الصيام) واجب على كل مسلم، فهو من أركان الإسلام الخمسة كما دل عليه الحديث الصحيح «الصيام جنة فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب وإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم»، وأما القيام فلقد حظي بالفضل ومضاعفة الأجر، لذا كان قيام الليل إحدى سمات الصيام المشهورة التي يتميز بها الصائمون في ليالي هذا الشهر المبارك كما قال صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليله». وكان للحبيب صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في هذا الشهر ما ليس لغيره، وبخاصة في العشر الأواخر منه، لهذا إذا دخلت تلك العشر أحيا ليلها وأيقظ أهله وشد المئزر وتفرغ لعبادة ربه - جل وعلا.
وليس للقيام في هذا الشهر صفة محددة لا يصح بدونها، فالصائم قد ينشط فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد يكون تعباً فيكون الأفضل في حقه التخفيف، وأصح ما ورد في قيامه صلى الله عليه وسلم قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على أحد عشرة ركعة، مع الترتيل والتأني). وثبت أنه كان يقوم عند منتصف الليل ويستمر حتى قرب طلوع الفجر فيصلي ثلاث عشرة ركعة بتأنٍ وتدبر، وهذا يستدعي الإطالة في القراءة والإطالة في أركان الصلاة.
وكان الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح يعمّرون المساجد ليالي رمضان بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، ولهم في ذلك دوي كدوي النحل، فما بال كثير من الناس لا يصلون القيام البتة، أو ربما صلوا بعض الأيام دون بعض، فلا شك أن ذلك حرمان منهم - نسأل الله السلامة، فقد حرموا الأجور وحرموا لذة مناجاة الرب الغفور.
صحيح أن التراويح والقيام سنة ولم يداوم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر خشية أن تفرض على أمته، قال عبد الرحمن القاري: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلى المسجد فوجد الناس أوزاعاً متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فرأى رضي الله عنه وأرضاه أن يجمعهم على إمام واحد فجمعهم على أُبي بن كعب.
والظاهر أن عدد الركعات غير مقصود لذاته، فمن صلى مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الإطالة والحُسن صلى إحدى عشرة ركعة، وإلا صلى ما شاء الله أن يصلي دون تحديد عدد معين من الركعات. وكثير من الناس قد يتعارض دوامه مع وقت صلاة التراويح كموظفي المستشفيات والشركات والمتاجر والأسواق، فلا بد أن نجد من أئمة المساجد من يبادر بأداء التراويح في أول وقتها ومن يخفف ليتسنى لمن ذكرنا أن يجمع بين الصلاة والعمل[2].
التغيير في هذا الشهر المبارك:
التغيير الذي جاءت به أول آية نزلت في هذا الشهر مما سبق بيانه، تقرر فيها الحكمة الجامعة للخير في الدارين على اختلاف أنواعه، وهي (التقوى)، لأنها هي التي تنشأ من الإيمان بالغيب الذي يستيقظ مع الضمير، وهي التي تحرس القلوب من إفساد الصوم بالمعاصي وتشحذ الذهن وتدفعه إلى التفكير في الحكم البالغة من التشريعات الإلهية، فيلتزم المسلم بها ويرعاها رعايتها.. وسر ختم آية الصوم بالتقوى (لعلكم تتقون) لأن إعداد نفوس الصائمين لتقوى الله يظهر من وجوه كثيرة، أعظمها شأناً وأظهرها أثراً أن الصيام أمره موكل إلى الصائم نفسه وضميره لا رقيب عليه فيه إلا الله تعالى، فتستلزم الأمانة حفظ الصوم مهما سنح له مما يشتهى أو يغري، فمواصلة ذلك شهراً كاملاً عن تقوى ومراقبة ورجاء من الله يصاحبه في هذه المدة يحصل بها نزاهة الضمير وضبط النفس وإعدادها لما يؤهلها للخير ويتحمل الأذى ويقوي عزيمتها في كل إقدام وإحجام ويتقوى بصومه الصحيح على كبح جماح شهوته وتزدان النفس وإيضاحها عند حدود الله فيحبس لسانه عن اللغو والنميمة كما يردعه عن الغش والخداع والتطفيف والمنكر وارتكاب الفواحش وأخذ الربا والرشا وأكل أموال الناس بالباطل، ويجعله يسارع في فعل الخيرات وبذل الصدقات والقيام بالأعمال الفاضلة واحتساب الأجر في كل عمل يقوم به؛ لذا كان على المسلم أن يصوم عن إيمان واحتساب وتعظيم لشعائر الله تعالى[3].
فرص سانحة في هذا الشهر فالزمها[4]:
من هنا يلزم الصائم المؤمن أن يغير نفسه وأن يغتنم هذه الفرصة ليغير كل ما قد كان يقع فيه من المآخذ والسلبيات.
- فالتهاون بأمر الصلاة خطأ فادح بكل المقاييس، فيا من كنت مفرطاً في صلاتك فلا تصليها مطلقاً أو تؤخرها عن وقتها أو تتخلف عن أدائها مع الجماعة في المسجد، ففرصتك للعودة إلى الله بأداء صلاتك كما أُمرت من بركات هذا الشهر المبارك، وأن تتغلب على مشاغلك وأن تؤدي صلاتك، فاستعن بالله وكن مع {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ 34 أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج: 34 - 35].
- ولمن ابتلاه الله بتعاطي الحرام من خمر ومخدرات ومسكرات وحتى شرب الدخان، فقد هديت إلى فرصة للتخلص من تلك الآفات ببركة هذا الشهر، فلا تتناول شيئاً من ذلك بعد الإفطار مما يخل بهذه العزيمة التي جعلتك ممسكاً طوال ساعات النهار، فيهدم في ليله ما بناه في نهاره من قوة الإرادة التي هجر بسببها محبوباته ومألوفاته، فما أحزمه لو استغل شهر الصيام باعتباره مدرسة يتدرب بها على هجر ما يكرهه هو أو يكرهه الشارع من مألوفاته التي اعتاد تعاطيها، تالله ما أحزمه لو واصل هذه الحمية عن ذلك فالليل كما علمنا يعقبه النهار.
ولمن لم يكن همه القرآن قراءة وتدبراً وحفظاً وعملاً حتى أصبح القرآن نسياً منسياً أن يكون هذا الشهر بداية للتغيير تثبت لنفسك جزءاً من القرآن لا تنفك عنه بأي حال، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل وقليل دائم خير من كثير منقطع.
أيضاً رمضان فرصة للتغيير لكل شاب وفتاة ضيعا وقتهما بالهاتف طويلاً وتهاتفا بعبارات الحب والغرام والعشق والهيام، والذي كله في الغالب كذب وهراء وتلاعب بالعواطف، ما قد يؤدي للوقوع في الفاحشة، فقول إحدى المعاكسات: كانت البداية مكالمة هاتفية عفوية تطورت إلى قصة حب وهمية أوهمني أنه يحبني وسيتقدم لخطبتي وطلب رؤيتي فرفضت فهددني بالهجر فضعفت وأرسلت له صورتي ثم توالت الرسائل ثم طلب مني الخروج معه فرفضت فهددني بالصورة والمكالمات التي كان يسجلها ثم خرجت معه على أن أعود بسرعة لكني عدت وأنا أحمل العار فطلبت منه الزواج بسرعة قبل الفضيحة فقال بكل احتقار وسخرية أنا لا أتزوج فاجرة!
أيضاً رمضان فرصة للتغيير من الأخلاق الرديئة، فمن جبل على الأنانية والشح وفقدان روح الشعور بأن المسلمين كالجسد الواحد، فهذا الشهر الكريم فرصة للقضاء على صفة الأنانية والتشنج وكذلك الشعور بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
أيضاً رمضان فرصة لمن ابتلي بقلب قاس لا تدمع له عين أن ينتهز فرصة هذا الشهر الذي تكون للنفوس فيه صولة وللقلب فيه جولة ليحرص على ترقيق قلبه بصرفه عن الذنوب التي هي جالبة للخطوب وحاجبة للقلوب عن علام الغيوب.
فمن أراد السعادة فليزم عتبة العبادة وليتجنب الإساءة كما قال الخليفة عثمان بن عفان (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل)، ويقول الحسن البصري (إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم قد كبلتك الخطايا والذنوب وليكن لك بين فينة وأخرى زيارة للمقابر فإنها تذكرك بالآخرة كما ورد في الحديث الصحيح).
- ورمضان فرصة للتغيير لمن كان يأكل الحرام من خلال أكل الربا أو التلاعب في البيع والشراء وكذلك بيع المحرمات كالدخان والصحف والمجلات الفاسدة والملابس الفاضحة، وتذكروا رجالاً ونساءً ألا يكن أحدكم (إمعة إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا) أخرجه الترمذي (2007)، فكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر، فإن الدال على الخير كفاعله، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
أيضاً رمضان فرصة للتغيير للأحسن، فكثير من الكتاب والقصاصين أذكرهم أن للكلمة أمانة ومسؤولية، فلا لحرية الكلمة المطلقة، فلا بد من الخوف من الله، وحري بكل كاتب وقاص وشاعر ألا يقول أو يسطر إلا ما يسره في القيامة أن يراه {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـئُـولاً} [الإسراء: 36].
وقبل الختام:
بعد أيام جميلة عشنا فيها مع الصيام والقيام والعمل الصالح، سنودع شهر القرآن وستختم المساجد القرآن العظيم مودعين تلك الأيام والليالي الفاضلة بمشاهد عاطفية صادقة مهللين ومكبرين {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
فلقد أورثنا هذا الشهر الكريم نفحات إيمانية منها:
- الإخلاص لله: بأداء عبادة لم يحملهم على الالتزام بها مع إمكان تركها إلا إرادة وجهه الكريم.
- التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بإمساكه وفطره وسمته وتلاوته وجوده وقيامه وكأنما هو ماثل أمامهم صلى الله عليه وسلم.
- ارتباط معالي الأخلاق من الصبر والتعفف والرحمة بالخلق والترفع عن سفاسفها من قول الزور والعمل به والجهل واتباع الهوى.
- إلف العبادة والأنس بها والتعود عليها مما يهيئ للمداومة عليها من صيام النفل وقيام الليل والصدقة.
وإلى جانب تلك الصور الزاهية التي رسمها لنا الصيام في حياتنا، هناك مشهد كئيب لبعض المنكوسين المحجوبين الذين لم يرفعوا رأساً بهذا الشهر الكريم وما خرجوا إلا بحصاد الهشيم من أصحاب الشهوات ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وعلى رأسهم أصحاب الفنون والمسلسلات الملهيات، فكيف بالله أن يخرجوا فاترين من تلك الفرص السانحة صفر اليدين، بل يعودون محملين بالأوزار وبإضلال الناس، فسبحان الله كيف فاوت بين أصحاب العقول والقلوب، فهنيئاً لكل باذل ما بذل وكل حارث ما حرث وصدق الله العظيم: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20][5].
وأخيراً فهذا الشهر المبارك فرصة للتغيير لمن كان مذنباً أو مسرفاً على نفسه بالخطايا والموبقات، وعليه أن يتوب ويؤوب ويبادر إلى الاستقامة قبل الفوات والممات، فقد آن لثياب العصيان أن تخلع في رمضان ليلبسك الله لباس الرضوان وليجود عليك بمحو الذنوب والبهتان {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وأذكرك أخي الكريم بصيام ست من شوال كما حثنا الحبيب عليه الصلاة والسلام «من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر» (أخرجه الإمام مسلم). ولئن انقضى شهر رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد كل ليلة من ليالي السنة، والله أسأل للجميع القبول والله ولي التوفيق.
[1] تحدث العلامة أبو الحسن الندوي - رحمه الله - عن الصيام لدى الأمم الأخرى، كتابه (الأركان الأربعة).. الحديث ماتع قلَّ من يتطرق له.
[2] بتصرف من كتاب (أيام رمضان) د. صالح بن عبد الكريم الزيد.
[3] الصيام مدرسة.. للشيخ عبد الرحمن الدوسري بتصرف.
[4] وقفات من رسالة (رمضان فرصة للتغيير) لفضيلة د. الشيخ محمد بن عبد الله الهبدان بتصرف.
[5] بتصرف من كتاب (القيدة والحياة) د. أحمد القاضي.
____________________________________________________
الكاتب: أحمد بن عبدالعزيز العامر -رحمه الله-
- التصنيف:
- المصدر: