الوفاء مع من أحسن إلينا
وقفتنا اليوم أمامَ يوم بدْر؛ لكي نستلهمَ منها العِظات، ونأخذ الدروسَ والعِبر، ونترجمها في واقِع حياتنا؛ لعلَّها تكون نبراسًا يضيء لنا طريقَ العِزَّة والنصر، وطريق الوصول إلى بَرِّ الأمان.
- التصنيفات: أخلاق إسلامية - محبة النبي صلى الله عليه وسلم -
أيها المسلم:
ها نحن نعيشُ في اليوم السابع عشر من رمضان، وهذا اليوم يعرِفه كلُّ مسلم ينتمي إلى القافلة التي يقودها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا اليوم كانتْ فيه ملحمةٌ من ملاحِمِ الإسلام، اليوم الذي يُسمَّى بيوم الفرقان، فرَّق فيه الحق - تبارك وتعالى - بيْن الحقِّ والباطل، اليوم الذي الْتقى الجمعان فيه، اليوم الذي أعزَّ الله فيه جُندَه، ونصَر فيه عبدَه، وأذلَّ فيه مَن عاداه، اليوم الذي نصَر الله فيه الإسلامَ وأهلَه، وأعزَّهم من ذُلّ؛ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] إنَّه يومُ بَدْر، في السابع عشر من رمضان من السَّنة الثانية من الهِجرة النبوية، وقعتْ غزوة بدرٍ الكُبْرى.
وقفتنا اليوم أمامَ يوم بدْر؛ لكي نستلهمَ منها العِظات، ونأخذ الدروسَ والعِبر، ونترجمها في واقِع حياتنا؛ لعلَّها تكون نبراسًا يضيء لنا طريقَ العِزَّة والنصر، وطريق الوصول إلى بَرِّ الأمان.
والدرس الذي نقِفُ معه اليوم، والذي استنبطْناه من الدروس العظيمة لمعركة بدر هو درس (الوفاء مع مَن أحسن إلينا).
ولنستمع معًا إلى هذا الموقِف العجيب الفريد؛ لنرَى وفاءَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع مَن أحْسَن إليه، وكيف ردَّ الجميلَ إلى صاحبه.
في مكَّةَ حينما كان الإيذاء شديدًا من الكفَّار على المسلمين، كان هناك رجلٌ اسمه: أبو الْبَخْتَرِيّ بنَ هِشَام، وكان من سادةِ الكفَّار، ولكنَّه وقَف مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم نقْض الصحيفة وقفةً مشرِقة، ودافَع عن المسلمين رغمَ كُفْره وعدم إسلامه، ومرَّتِ الأيام، وهاجَر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة، ومرَّ على هذا الموقِف عشر سنوات، ولكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وَفِيٌّ لا ينسى مَن أحسن إليه، وجاءتْ غزوة بدر، وإذا بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُنادي في أصحابه قائلاً: «مَنْ لَقِيَ أبا الْبَخْتَرِيِّ بنَ هِشَام، فلا يقتُلْه، فإنَّه كان له معنا بمكَّةَ كذا وكذا» ، وراح يُذكِّرهم بمواقفه معهم في مكة.
وفي أثناء الغزوة يَجِد أحدُ الصحابة، وهو (المُجَذَّر بن زياد) فجأة أمامَه أبا البختري بن هشام، فالطبيعي أن يقتلَه الصحابي، فلقد كان كافرًا، ويُحارِب المسلمين، ولكنَّ المسلمين أوفياء، فتركه المُجَذَّر بن زياد، وقاتل رجلاً بجواره، فتعجَّب أبا البختري، وقال له: لِمَ تركتَني؟ قال له: أمرَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ألاَّ نقاتلك، فقال له: ولِمَ؟ قال الصحابي: وفاءً لك لِمَا فعلتَه معنا يومَ الصحيفة، فقال: وزميلي؟ فقال المُجَذَّر: لا واللهِ ما نحن بتاركي زميلك، فقال: والله إذًا لأموتنَّ أنا وهو جميعًا، ثم اقتتلاَ، فاضطر المجذَّر إلى قتْله.
ثم عاد يرتَجِف ويقول: واللهِ يا رسولَ الله، لولا أنه كان سيقتُلني ما قتلتُه، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «عفَا الله عنْك» ، الله أكبر! أيُّ وفاء هذا؟! وأيُّ تذكُّر للإحسان هذا؟! وأيُّ ردٍّ للجميل هذا؟!
أرأيتم إلى وفاءِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومع مَن؟ مع الكافِر الذي يقاتل مع المشركين ضدَّ المسلمين.
واللهِ لقد كان يومُ بدر يومَ الوفاء، كما كان يومَ الفرقان، هذا وفاءُ نبيِّكم يا مسلمون، هكذا يردُّ نبيُّكم الجميل لأصحابه، هكذا يقف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقفةً مشرِقة مع مَن وقَف معه في أيام شدَّته، فكأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن خلال موقفِه هذا يُريد أن يعلِّمَ الأُمَّة كيف تفي مع مَن أحسن إليها، وكيف ينبغي أن تردَّ الجميل لأهل الجميل، فأين الأُمَّة من هذا الخُلُق؟ وأين مَن يُحسِن إلى مَن أحْسن إليه؟
أنا أقف اليوم لأذكرَ مِن خلال هذا الدرس (درس الوفاء مع مَن أحسن إلينا) بالذين أحْسَنوا معنا في حياتنا، عسى أن نردَّ الجميل كما ردَّه رسولنا العظيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلقدْ كان لكم في رسولِ الله أُسوة حَسَنة لمَن كان يرجو الله واليوم الآخر.
أولاً: مِن الذين أحْسنوا إلينا (المعلِّم أو المدرِّس).
وليسألْ كلُّ واحد منا نفْسَه: كيف حاله مع معلِّمه الذي علَّمه الخيرَ وهو صغير، وبسببه وصَل إلى ما وصَل إليه اليوم؟
تعالَ لنستمع معًا إلى الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وهو يُحدِّثنا عن إحسانِه مع مَن أحسن إليه وعلَّمه؛ يقول أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: "ما مددتُ رِجلي نحوَ دار أُستاذي حمَّاد؛ إجلالاً له، وكان بيْن داري وداره سبعُ سِكك، وما صليتُ صلاةً منذ مات حمَّاد إلاَّ استغفرتُ له مع والديَّ، وإني لأستغفرُ لمَن تعلمتُ منه أو علَّمني عِلمًا".
الله أكبر! أنا أُنادي على الناس جميعًا أن يُعيدوا النظرَ في تعاملهم مع المعلِّمِ والمدرِّس، مع مَن علَّمهم وأحْسَن إليهم، وليتعلَّموا مِن أبي حنيفة كيف يكون ردُّ الجميل إلى الأستاذ، بل هذا أبو يوسفَ تلميذُ أبي حنيفة يقول: "إني لأدعو لأبي حنيفة قَبْل أبَوَيَّ"!.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: "ما بِتُّ منذ ثلاثين سَنة إلا وأنا أدعو للشافعيِّ وأستغفرُ له"، وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: قلتُ لأبي: أيّ رجلٍ كان الشافعي؛ فإنِّي سمعتُك تُكثِر من الدعاء له؟ فقال: "يا بُني، كان الشافعي كالشَّمْس للدنيا، والعافية للنَّاس، فانظرْ هل لهذين مِن خَلَف، أو عنهما مِن عِوَض؟!".
انظروا إلى الوفاءِ الدائِم، نعم إنَّه وفاءُ قلوب حيَّة لا تنْسى أصحابَ الفضل عليها، فأين وفاءُ المسلمين اليومَ مع المعلِّمين والمدرِّسين؟!
أنا أدعو المسلمين مِن خلال هذا الموقِف إلى أن يردُّوا الجميلَ للمعلِّمين والمدرسين، وذلك بأن يُسلِّم عليهم أينما وجَدَهم، ويُخاطِبهم بكلِّ أدب، فيقول: "السلام عليكم يا أستاذُ، أو أستاذنا الكريم"، فإنَّ هذا الكلام يُفرحه كثيرًا، وعلى الأقل أن يدعوَ لهم في كلِّ صلاة: "اللهمَّ اغفرْ لمَن علَّمنا وأحْسَن إلينا، وأوْصانا بدعاءِ الخير وأوصَيْناه".
ثانيًا: الوفاء مع الأبوين:
وإنَّ أحقَّ مَن أحسنوا إلينا هما الأبُ والأمّ، وواللهِ إنَّنا لن نستطيع أن نوفيهما حقَّهما، ولكن بقَدْر ما نستطيع؛ هذا رجلٌ جاء إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - فقال: إنَّ لي أمًّا بلَغ بها الكِبر، وإنها لا تقضي حاجَتَها إلاَّ وظهري مطية لها، وأُوضِّئها، وأصرِف وجهي عنها؛ فهل أديتُ حقَّها؟ قال: لا، قال: أليس قد حملتُها على ظهري، وحبستُ نفسي عليها؟! فقال له ابن عمر - رضي الله عنهما -: إنَّها كانتْ تصنع ذلك بكَ وهي تتمنَّى بقاءَك، وأنت تتمنَّى فراقها.
وجاء رجلٌ إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - فقال: حملتُ أمِّي على رَقَبتي من خراسان، حتى قضيتُ بها مناسكَ الحج؛ أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا طلقة مِن طلقاتها.
وعن أَبِي أُسيد مالك بن ربيعة الساعديِّ، قال: بينا نحنُ عندَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ جاءَه رجل من بني سَلِمة، فقال: يا رسولَ الله، هل بقي مِن بر أبوي شيء أبَرُّهما به بعدَ موتهما؟ قال: «نعَم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهْدِهما مِن بَعْدهما، وصِلة الرَّحِم التي لا تُوصَل إلا بِهما، وإكرام صَدِيقهما» ؛ (رواه أبو داود).
إنَّ هذه الوصايا بعدَ موتهما! وواللهِ إنَّ الوفاء لهما أثناء حياتهما لأكبرُ من هذا.
ثالثًا: الوفاء مع كل الناس، وخاصَّة زوجتك:
الوفاء مع زميلك في الكُليَّة، مع جارِك الذي تربَّيْت معه، مع صاحِبك في العمل، مع أخيك في المسجِد، الوفاء مع كلِّ مَن عرفتَه خلالَ أيام حياتك، وإيَّاك أنْ تنْسى تَوْءمَ رُوحك، فهي صاحِبة أعْظمِ عِشْرة، وهي زوجتُك، فمع الأسف هناك مَن ينسى فضلَها ويُنكره، بل وتصِل الحالة أن يضربَها، ويؤذيها، ويفتري عليها، وهناك مَن يُعاقبها بمنعها مِن أن تزورَ أهلَها، أين الوفاء؟
تعالوا لتنظروا إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كيف يحبُّ أُسرتَه، ويحب أُمَّنَا خديجة - رضي الله عنها - حُبًّا شديدًا، وامتدَّ حبُّه لها بعدَ وفاتها، فكان يكثر مِن ذِكْرها، ويكرم أقاربها، ويُحسِن إلى صديقاتها؛ رَوى البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالتْ: ما غِرتُ على أحدٍ من نساء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما غرتُ على خديجة، وما رأيتُها، ولكن كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكثِر ذِكْرها، وربما ذبَح الشاة ثم يقطعها أعضاءً، ثم يَبْعثها في صدائق خديجة، فربَّما قلت له: كأنَّه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة! فيقول: ((إنها كانتْ وكانتْ، وكان لي منها ولد))، وفي رواية الإمام أحمد عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا ذكَر خديجة أثْنَى عليها فأَحْسن الثناء، قالت: فغِرتُ يومًا فقلت: ما أكثرَ ما تذكُرها، حمراء الشِّدق، قد أبْدَلك الله - عزَّ وجلَّ - بها خيرًا منها، قال: «ما أبْدَلني الله - عزَّ وجلَّ - خيرًا منها، قد آمنتْ بي إذ كفَر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذَّبني الناس، وواستْني بمالِها إذ حرَمَني الناس، ورَزَقني الله - عزَّ وجلَّ - ولدَها إذ حَرَمني أولادَ النساء».
يا الله! أي وفاءٍ هذا؟! يا رِجال، تخلَّقوا بأخلاقِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كُونوا أوفياءَ كما كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وهذا سيِّدُنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء إليه رجلٌ يشكو له سوءَ معاملة زوجته، فلمَّا جلس في مجلس أمير المؤمنين وجَد عمر - رضي الله عنه - غضبان مِن زوجته، فقام الرجلُ دون أن يتكلَّم، فنادَى عليه أميرُ المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: أيُّها الرجل، فيمَ جِئتَنا؟ فقال له الرجل - بلسان صريح -: جئت لأشكوَ إليك سوءَ معاملة زوجتي، فرأيتُك يا أميرَ المؤمنين تشكو ممَّا أنا أشكو منه! وإذْ بعمر - رضي الله عنه - الذي تَعلَّم خُلق الوفاء مِن نبيِّه ومعلِّمه رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتكلَّم، ويُعلِّم هذا الرجل مِن خلال كلامه خُلقَ الوفاء مع مَن أحسن إليه، فيقول له: يا أخي، أليستِ المرأة هي التي تطبُخ طعامنا؟ قال: نعم، أليستِ المرأة هي التي تغسِل ثيابَنا؟ قال: نعم، قال: أليستِ المرأة هي التي تُرضِع أولادنا؟ قال: نعم، قال: أليستِ المرأة هي التي تقومُ على قضاء حوائجنا؟ قال: نعم، قال: فإذا أساءتْ مرَّةً فليس لنا أن نَذكُر سيِّئاتِها وننسى حسناتِها.
للهِ دَرُّك يا ابن الخطَّاب! لله درُّك يا عمرُ على هذا الوفاء العظيم! مَن منَّا يفعل مثل عمر؟! يُعدِّد فضائلَ زوجته، ويَفِي بحقِّها، ولا ينسى التوقيتَ المناسب للوفاء، وأي وفاءٍ هذا؟!
أنا أدعوكم جميعًا مِن خلال موقِف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في معركة بدْرٍ الكبرى إلى أن نتخلَّق بخُلُق (الوفاء مع مَن أحسن إلينا)، فواللهِ لا عِزَّة لنا، ولا نجاةَ لنا، ولا كرامةَ لنا، ولا نصْرَ لنا، إلا باتِّباعنا لرسولنا العظيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتطبيق أخلاقِه في واقِعِ حياتنا، أسال الله أن يجعلَنا من المتخلِّقين بأخلاقِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومِن المتَّبعين لسُنَّته، آمين يا ربَّ العالمين.
نتعرَّف على فضائلِ العشر الأواخِر من رمضان، وأهمية استغلالها كما كان يفعَلُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه الكرام.
في الصحيحين من حديث عائشة: "كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا دخلتِ العشرُ شَدَّ مِئزرَه، وأحيا ليلَه، وأَيْقَظ أهلَه"، وفي لفظ لمسلم: "أحيا ليلَه، وأيقظ أهله"، ولها عندَ مسلم: "كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجتهد في العشرِ ما لا يجتهد في غيرِها"، ولها في الصحيحين: "أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يعتكِفُ العشرَ الأواخِر مِن رمضان حتَّى توفَّاه الله".
فمِن هذه الأحاديث نرَى أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يجتهِد بالأعمال التالية:
1- إيقاظ أهله: وما ذاك إلاَّ شفقةً ورحمةً بهم، حتى لا يفوتهم هذا الخيرُ في هذه الليالي العَشْر.
2- إحياء الليل: فإنَّه إذا كان رمضانُ كان يقوم وينام، حتى إذا ما دخلتِ العشر الأواخِر أحيا الليل كلَّه أو جُلَّه.
3- شد المئزر: والمراد به اعتزالُ النساء - كما فسَّره سفيان الثوري وغيرُه.
4- الاعتكاف: وهو لزومُ المسجد للعِبادة، وتفريغ القلْب للتفكُّر والاعتبار.
___________________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي