الحذر من زوال النعم: (رغد العيش, والأمن من الخوف)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
والمحزن أن أكثر الناس لا يشكرون نعم الله قال العلامة ابن باز رحمه الله: أكثر الناس يتمتع بنعم الله ويتقلب فيها ولكنهم لا يشكرونها بل هم لاهون ساهون غافلون
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فنعم الله عز وجل على عباده لا تعد ولا تحصى؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] قال العلامة السعدي رحمه الله: نعمه الظاهرة والباطنة على العباد بعدد الأنفاس واللحظات من جميع أصناف النعم, مما يعرف العباد ومما لا يعرفون, وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من أن يحصى.
والمحزن أن أكثر الناس لا يشكرون نعم الله قال العلامة ابن باز رحمه الله: أكثر الناس يتمتع بنعم الله ويتقلب فيها ولكنهم لا يشكرونها بل هم لاهون ساهون غافلون
ومن العلامات التي يمكن للإنسان أن يعرف منها هل هو شاكر لنعم الله عز وجل أن يلاحظ نفسه هل هو يقوم بشكر الناس إذا أدوا إليه أقل معروف, فإن كان لا يقوم بقلبه شكرهم فهو لعدم شكر نعم الله جل وعلا أقرب, يقول الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: فالذي ليس في قلبه شكر للناس إذا أدوا إليه معروفاً, أو عملوا معه عملاً طيباً, فإنه لنسيان فضل الله, ونعمه المتواترة عليه أقرب, لهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس» ومن نعم الله عز وجل: رغد الرزق, والأمن من الخوف, ولقد امتن الله جل جلاله على قريش بهذه النعم العظيمة، قال الله عز وجل: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ *إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4] قال العلامة السعدي رحمه الله: رغد الرزق والأمن من الخوف من أكبر النعم الدنيوية, الموجبة لشكر الله.
وإعطاء الله جل وعلا للنعم اختبار وليس دليل محبة ورضا واصطفاء, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قال تعالى: ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾؛ أي: النعم التي أوتيها فتنة نختبره فيها، ومحنة نمتحنه بها، لا يدل على اصطفائه واجتبائه، وأنه محبوب لنا مقرب عندنا؛ ولهذا قال في قصة قارون: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]، فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه يدل على رضاء الله سبحانه عمن آتاه ذلك، وشرف قدره وعلو منزلته عنده - لما أهلك من آتاه من ذلك أكثر مما آتى قارون، فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطته، عُلم أن عطاءه إنما كان ابتلاء وفتنة لا محبة ولا ورضًا واصطفاءً لهم على غيرهم؛ أي: النعمة فتنة لا كرامة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49]
فإن رام أهل الإيمان استمرار النعم وعدم سلبها وزوالها, فإن عليهم شكرها بأمور, قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: أما موقف أهل الإيمان عند ورود نعم الله عليهم فتكون بأمور:
أولها: بالاعتراف بأن هذه النعم من عند الله.
وثانيها: بحديث اللسان بنسبتها إلى جل وعلا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]
وثالثها: بعدم استعمال هذه النعم في معاصي الله.
ورابعها: باستعمال هذه النعم في طاعة رب العزة والجلال, وبذلك يحصل الشكر, قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وقال جل وعلا: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْۖ﴾ [إبراهيم:7]
كما أن عليهم الحذر من سلب تلك النعم وزوالها, فنسيان نسبة هذه النعم إلى مسببها, وهو الله جل جلاله يُخشى منه أن يؤدى إلى سلبها وزوالها, قال العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله: من نسب نعمة الله إلى الحول, أو القوة, أو الذكاء, أو الفطنة, ونحو ذلك من الأسباب, ونسي نسبتها إلى مسببها وهو الله تعالى مسبب الأسباب, فإن ذلك يكون سبباً في سلبها, وتكون هذه عقوبة عاجلة له في الدنيا.
وطغيان النعمة وكونها تلهى الإنسان عن آخرته من أسباب زوالها, فأحد الرجلين الذين ذكرهما الله عز وجل في سورة الكهف كفر بنعم الله عز وجل عليه فسُلِبها, قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: في هذه القصة العظيمة اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعماً دنيوية فألهته عن آخرته, وأطغته وعصى الله فيها أن مآلها الانقطاع والاضمحلال, وأنه وإن تمتع بها قليلاً فإنه يحرمها طويلا.
والتهاون بارتكاب بعض الذنوب من أسباب زوال النعم, قال العلامة ابن باز رحمه الله: قد علم كل ذي بصيرة وعلم بأحوال الناس أن فشو الغناء والملاهي في المجتمع من أعظم الأسباب لزوال النعم وحلول النقم وخراب الدولة وزوال الملك وكثرة الفوضى والتباس الأمور, فالجد الجد والبدار البدار قبل أن يحل بنا من أمر الله ما لا طاقة لنا به, وقبل أن تنزل بنا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منا خاصة بل تعم الصالح والطالح ويهلك بها الحرث والنسل ولا حول ولا قوة إلا بالله"
إن عدم شكر النعم, نذير بزوالها وسلبها, نسأل الله السلامة قال الله سبحانه وتعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها...فجحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم.. {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبي إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغداً من كل مكان
وقال العلامة السعدي رحمه الله: كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر, ولكن الله يسر لها الرزق, يأتيها من كل مكان, فجاءهم رسول منهم, يعرفون أمانته وصدقه, يدعو إلى أكمل الأمور, وينهاهم عن الأمور السيئة, فكذبوه, وكفروا بنعمة الله عليهم, فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه, وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد, والخوف الذي هو ضد الأمن, وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم, {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونََ}
ليتذكر أهل البلاد التي امتن الله عز وجل عليهم بالنعم والخيرات أنهم كانوا يعيشون قبلها في شدة وفقر, فالواجب تذكر ذلك وشكر الله المنعم, قال العلامة السعدي رحمه الله:ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة, بعد شدة وفقر وسوء حال, أن يعترف بنعمة الله عليه, وأن لا يزال ذاكراً حاله الأولى ليحدث لذلك شكراً كلما ذكرها.
لتذكر المجاعات العظيمة التي مرت بها بعض البلاد فما حلَّ بهم قد يحلً بنا إن لم نشكر نعم الله عز وجل علينا, قال العلامة العثيمين رحمه الله: هذه البلاد يحدثنا أهلها الذين هم أكبر منَّا أنه أتاها مجاعات عظيمة, وكانوا يموتون من الجوع في الأسواق...فالذي أصابنا بأمس يمكن أن يأتينا اليوم إذا بطرنا هذه النعمة...وحدثني شخص أكبر منَّي قليلاً أنه كان إذا أتى أبوه بالنوى اجتمع عليه هو وإخوانه, لعلهم يجدون نواة فيها سِلب يأخذونها يمصونها.
وكذلك حدثني شخص ثقة: قال: أقمنا ثلاثة أيام أنا ووالدتي لا نأكل, فلما كان ذات ليلة عجزنا أن ننام من الجوع, فقالت له: اذهب إلى مبيعة العلف واللحم, لعلك تجد فيها ولو علفاً أو عظماً نطبخه نأكله, يقول: ذهبتُ ووجدت أربع خفاف من خفاف الإبل, وكانوا في الأول يلحونها ويرمونها, وأخذت من العلف, وأتيت به بعد صلاة العشاء, يقول: فجعلنا نطبخ هذا الذي أتينا به من العلف وشوينا الحفاف ودققناها, وصرنا نذرها على العلف, فلما نضج أكلناه.
اللهم وفقنا جميعاً لشكر النعم, اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك, وتحول عافيتك, وفُجاءة نقمتك, وجميع سخطك.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ