العشر الأواخر من رمضان والهدي النبوي فيها..
محمد سيد حسين عبد الواحد
ليلة القدر هى ليلة العفو ليلة التجاوز ليلة العتق من النار نسأل الله أن يجيرنا من النار ومن عذاب النار ومن كل عمل يقربنا إلى النار
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
«وفى الصحيحين من حديث عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أن عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ قَامَ حَتَّى تتفطر رِجْلاَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ فقلت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم « يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أحب أن أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ».
أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دخول العشر الأواخر من رمضان من كل عام كان قدوتنا وأسوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فى العبادة اجتهاداً كبيراً وينشط فى الطاعة نشاطاً عظيما وعند مسلم « كان النبى يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها»
فكان صلى الله عليه وسلم يخص هذه الليالى بأكثر من عبادة وقد ورد فى مسند الإمام أحمد أن رسول الله فى العشرين ليلة الأولى من رمضان كان يخلط بين الصلاة وبين النوم والمعنى أنه كان يقوم من الليل ويرقد وأنه صلى الله عليه وسلم يبقى على هذا الحال حتى تدخل عليه العشر الأواخر من رمضان فإذا دخلت عليه رأيت من رسول الله إقبالاً شديداً على العبادة بكل جوارحه ومشاعره وأركانه
تصف عائشة رضى الله عنها ما يكون عليه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فى العشر الأواخر من رمضان فتقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده
كان يعتكف كل عام عشرة أيام فلما كانت آخر أعوامه صلى الله عليه وسلم ولما كان آخر رمضان اعتكف رسول الله عشرين يوماً
ومعنى الاعتكاف أيها المؤمنون تفريغ القلب مما سوى الله وحبس النفس على طاعة الله فى بيت من بيوت الله معنى الاعتكاف الانقطاع فى بيت من بيوت الله لذكر الله وللصلاة ولتلاوة القرآن وللدعاء وللاستغفار وللصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم تواصل أم المؤمنين حديثها عن حال رسول الله فى العشر الأواخر فتقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله"
أما شد المئزر أيها المؤمنون فقيل إنه كناية عن عزيمة أكيدة وكناية عن قوة الإقدام على طاعة الله فى هذه الليالى المباركة
وقيل إن شد المئزر معناه أن يتفرغ المسلم للعبادة ولا ينشغل عنها بشئ وفى القرآن قول ربنا سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
وقد ورد فى هذا المعنى أن الرسول عليه الصلاة والسلام فى العشر الأواخر من رمضان كان يؤخر الفطور إلى وقت السحور فكان يواصل الصيام إلى وقت السحر وأحياناً كان النبى يواصل الصيام أياماً متتالية بلا فطور ولا سحور اشتغالاً بذكر الله تعالى فلما أراد الناس أن يواصلوا الصيام أياماً بلا طعام ولا شراب تأسياً برسول الله أشفق عليهم رسول الله ونهاهم عن وصال الصوم أياماً وأذن للمستطيع من المسلمين وأراد الوصال أن يواصل إلى السحور فقط وقال :
«لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر فقال رجل من القوم أنت تواصل الصوم أياماً يا رسول الله فلماذا تمنعنا فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : وأيكم مثلي! إني أبيت فيطعمني ربي ويسقيني» ..
وقيل إن شد المئزر معناه هجر الفراش واعتزال النساء ويقول بهذا المعنى عدد كبير من العلماء ..
وليس معنى أن شد المئزر هو اعتزال النساء أن نحسب أن اقتراب الرجال من أزواجهم فى العشر الأواخر من رمضان حرام .. اقتراب الرجال من أزواجهم فى أى وقت حلال حلال إلا فى أوقات مخصوصة منها أن تكون المرأة حائضاً أو نفساء..
وفى سورة البقرة يقول الله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
ومن الأوقات التى يحرم فيها اقتراب الرجال من أزواجهم أن تكون صائماً فالصيام كما تعلمون هو إمساك عن شهوتى البطن والفرج بنية مخصوصة من طلوع الفجر وإلى غروب الشمس
ومن الأوقات التى يحرم فيها اقتراب الرجال من أزواجهم أن تكون محرماً بحج أو بعمرة وفى الآية يقول الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ }
ومن الأوقات التى يحرم فيها اقتراب الرجال من أزواجهم أن تكون أخى معتكفاً فى بيت من بيوت الله تعالى ففى هذه الحال لا يحل للمرء أن يقرب زوجه كما فى قول الله تعالى
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
هذه هى الغاية من شد المئزر تفرغ وانقطاع وحبس للنفس على الطاعة رجاء أن يتقبلها الحكيم العليم سبحانه وتعالى بالقبول الحسن
وأما إحياء رسول الله صلى الله عليه وسلم لليالى العشر الأواخر من رمضان بقيام الليل فليس معناه أن رسول الله كان يصلى الليل فى رمضان فقط بل كان الرسول يقوم من الليل فيصلى كل ليلة فى رمضان وفى غير رمضان فريضة وخصوصية خصه الله تعالى بها من بين أمته وأمرُُ أمره الله به وحده فى قوله تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا }
فكان قيام الليل كل ليلة من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت فيما صح عنه أنه صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تورمت رِجْلاَهُ فقيل له هون على نفسك فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فيقول صلى الله عليه وسلم « أَفَلاَ أحب أن أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا »
لكن قيام رسول الله الليل فى العشر الأواخر من رمضان كان يتخذ شكلاًَََ آخر شكلاً مغايراً لقيام السنة كلها.
وهو قيام الليل كله بهمة وقوة ونشاط غير مسبوق فكان رسول الله يأكل لقيمات يقمن صلبه ثم يقوم فيصلى ثم يحتسى رسول الله حسيات من الماء يروى بها ظمأه ثم يقوم فيصلى ثم يسبح رسول الله بحمد الله ويرطب لسانه بذكر الله ثم يقوم فيصلى ولا ينام رسول الله من الليل فى العشر الأواخر من رمضان إلا قليلاً وفيه صلى الله عليه وسلم وفيمن سار على هديه من المؤمنين والمؤمنات أنزل الله قوله : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
أما إيقاظ الأهل للعبادة والصلاة فى العشر الأواخر من رمضان فهو صورة من صور أداء الأمانة التى علقها الله فى رقابنا تجاه أزواجنا وأبنائنا وبناتنا وهو عمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الليالى..
فقد ورد أن رسول الله فى العشر الأواخر من رمضان كان يبعث الخدم إلى بيوتات أزواجه ويقول « أيقظوا صواحب الحجر حَتَّى يُصَلِّينَ ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا ، عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ »
ولم يكن رسول الله يكتفى بهذا بل كان صلى الله عليه وسلم يقرأ قول الله تعالى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } ثم يبعث رسول الله بعض خدمه إلى بيت فاطمة ابنته من يطرق الباب عليها وعلى زوجها عليَّاً ويقول : يقول لكما رسول الله ألا تقومان فتصليان ؟!
بل ورد ما هو أكبر من ذلك أيها المؤمنون لم يكن رسول الله فى العشر الأواخر من رمضان يدع أحدا من أحفاده وحفيداته يطيق القيام والصلاة فى الليل إلا أقامه يصلى ويشهد الخير مع المسلمين
هذا أيها المؤمنون هو هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى كل ليلة من ليالى العشر الأواخر من رمضان يشد مئزره ويحيى ليله ويوقظ أهله , فهل لنا أن نتأسى برسول الله ؟ هل لنا أن نسير على خطى رسول الله ؟ هل لنا أن نحرص على الصالحات ونأمل فى الرحمات ونرجو رفع المنازل والدرجات كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
«قَالَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا وَصِلُوا الَّذِى بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ فِى السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ تُرْزَقُوا وَتُنْصَرُوا وَتُجْبَرُوا. »
الخطبة الثانية
أما بعد فيقول ربنا سبحانه { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
بقى لنا فى ختام الحديث أيها المؤمنون أن نقول هكذا تبينت لنا سنة رسول الله فى العشر الأواخر من رمضان قيام وركوع وسجود تسبيح وتكبير وتحميد للواحد المعبود تعب ونصب وسهر وإقبال معدوم النظير على العبادة بكل صورها وألوانها , والسؤال لماذا كل هذا ؟ لماذا كل هذا السهر والتعب والنصب ؟
أقول : كان رسول الله يجتهد كل هذا الاجتهاد طمعاً وأملاً فى الله تعالى أن يبلغه وآله وصحبه وكل من سار على هديه من المؤمنين والمؤمنات ليلة القدر { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } العبادة فيها بأى صورة كانت صلاة أو ذكراً أو تلاوة أو فكراً هى فى ثوابها فى ليلة القدر خير من نفس العبادة فى ألف شهر ليس فيها ليلة قدر من حرم الخير فى هذه الليلة فقد حرم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم
ليلة القدر أيها المؤمنون ليلة من ليالى العشر الأواخر من رمضان التى اختص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر الناس وقد ورد فيها قول رسول الله تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ليلة وإحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين
ليلة القدر هى ليلة المغفرة نسأل الله تعالى أن يبلغنا إياها قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» »
ليلة القدر هى ليلة العفو ليلة التجاوز ليلة العتق من النار نسأل الله أن يجيرنا من النار ومن عذاب النار ومن كل عمل يقربنا إلى النار قالت عائشة يا رسول الله أرأيت إن أدركت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» .