استغلال الوقت في رمضان
إخواني الصائمين، ليسأَلِ المسلمُ نفسه في كل يوم مِن هذا الشهر: ماذا قدَّم لنفسه مِن أعمال؟ وبماذا استغل أوقاتَه في هذا الشهر؟ هل قضاها بالطاعة والأعمال الصالحة؟ أو قضاها باللهو واللعب، والغفلة عما خُلِق له؟
إن الحمد لله، نحمَده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فهو المهتدِ، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن مِن نِعم الله علينا الكثيرة: نِعمةَ الوقت والفراغ، التي هي أغلى وأثمن من الذهب والفضة، لمن أجاد استثمارها والانتفاع بها، والوقت هو حياة المسلم، ورأس مالِه في الدنيا على الحقيقة، فمن ضيَّع وقته فكأنما ضيع عمره، ومن قتَل وقته بما يضر أو لا ينفع فهو القاتل لنفسه حقيقة، ولِشرف الوقت أقسم الله تعالى به، بل سمى به بعض السور في كتابه؛ كالضحى، والليل، والفجر، والعصر.
روى البخاريُّ رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ مِن الناس: الصحةُ والفراغ» [1].
قال ابن الجوزي في شرح هذا الحديث: (قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا؛ لشُغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغلَب عليه الكسلُ عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعةُ الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحُها في الآخرة؛ فمَن استعمَل فراغَه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومَن استعملهما في معصية الله فهو المغبونُ؛ لأن الفراغ يعقُبُه الشُّغل، والصحة يعقُبُها السقم، ولو لم يكن إلا الهَرَم لكفى؛ كما قيل:
يسرُّ الفتى طولُ السلامة والبَقا *** فكيف ترى طولَ السلامةِ يفعَلُ
يردُّ الفتى بعد اعتدال وصحَّــة *** ينوءُ إذا رام القيامَ ويُحــمَـــــلُ
إخواني الصائمين، ليسأَلِ المسلمُ نفسه في كل يوم مِن هذا الشهر: ماذا قدَّم لنفسه مِن أعمال؟ وبماذا استغل أوقاتَه في هذا الشهر؟ هل قضاها بالطاعة والأعمال الصالحة؟ أو قضاها باللهو واللعب، والغفلة عما خُلِق له؟ أو عما جُعل له هذا الشهرُ الكريم مِن خيرٍ وبركة وطاعة؟ حقًّا، إنها ظاهرةٌ غريبة وعجيبة أن يكون أقوام في هذا الشهر يبحثون في كيفية تضييعه بأنواع اللهو واللعِب، والسهر وإضاعة الوقت، والعبَث في لياليه، ليبقى نهارَه نائمًا ليستعدَّ لليلة أخرى من اللهو واللعب، أهكذا شكرُ النعم؟! أهكذا استغلال شهر الطاعة والتوبة؟!
كم تتألَّم نفسك ويتقطع قلبك على ما تراه مِن كثير من المسلمين شبابًا أو نساءً أو رجالًا وهم يقضون الساعات والسهرات الأيام الكثيرة في شهر الخير والبركة، وليس في عمل صالح يقربهم إلى الله، وإنما في غفلة وإعراض عما جعَل اللهُ له لياليَ هذا الشهرِ الكريم!
حقًّا، إنها الغفلة، والإعراضُ عن النفحات الإلهية والرحمات الربانية في شهر الرحمة والمغفرة والرضوان؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126].
أخي الصائم، أختي الصائمة: احرِصْ على ما تبقى مِن هذا الشهر الكريم؛ باستغلال أيامه ولياليه، وعُدَّ الساعاتِ له كيما تستثمرَ فيه كل لحظة؛ فإن لله فيه نفحاتٍ ورحماتٍ، وما تدري لعل الله أن ينظرَ إليك فيها فيقول لك بعدها: اصنَعْ ما شئتَ؛ فإني قد غفرتُ لك، عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: «افعلوا الخير دهرَكم، وتعرَّضوا لنفحاتِ رحمة الله؛ فإن لله عز وجل نفحاتٍ مِن رحمته، يُصيب بها مَن يشاء مِن عباده» [2].
أخي الحبيب، ألا تحبُّ أن تبلغ منازل الشهداء، أو تتقدم على درجة المجاهدين؟! ولا أظنك إلا كذلك، فاستمِعْ إلى هذه القصة التي يحكيها لنا أبو سلمة بنُ عبدالرحمن بن عوف، عن طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه، قال: إن رجُلينِ مِن بَلِيٍّ قدِما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعًا، فكان أحدهما أشدَّ اجتهادًا من الآخر، فغزَا المجتهدُ منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخرُ بعده سنةً، ثم توفي، قال طلحة: فرأيتُ في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارجٌ من الجنة فأذِن للذي توفي الآخِرَ منهما، ثم خرج، فأذِن للذي استُشهد، ثم رجع إليَّ فقال: ارجع؛ فإنك لم يأنِ لك بعدُ، فأصبح طلحةُ يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وحدَّثوه الحديث، فقال: «مِن أيِّ ذلك تعجبون» ؟))، فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ الرجلين اجتهادًا، ثم استُشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس قد مكَث هذا بعده سنةً» ؟!، قالوا: بلى، قال: «وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا مِن سجدة في السنة» ؟!))، قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما بينهما أبعدُ مما بين السماءِ والأرض» [3].
أخي الصائمُ، إن للأعمال الصالحة في هذا الشهر الكريم متعةً ولذةً ربما ليست في غيره مِن الأوقات، ومِن هذه الأعمال: الاعتمار، فإذا أدَّاها المسلم على الوجه المطلوب كانت سببًا في مغفرةِ ذنوبه وحطِّ سيئاته؛ فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «العُمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» [4]، وحث - عليه الصلاة والسلام - أمَّتَه على الإكثارِ منها، فقال: «تابِعوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإن المتابعةَ بينهما تَنفي الفقرَ والذنوب، كما يَنفي الكِيرُ خبَثَ الحديدِ والذهبِ والفضة» [5]؛ (رواه ابن خزيمة في صحيحه).
والعمرةُ في شهر رمضان لها مزيَّةٌ خاصة؛ فإن ثوابها وأجرها أعظم من الثواب والأجر في غيره؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما رجَع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته، قال لأم سنان الأنصارية: «ما منعك أن تحجي معنا»؟، قالت: كان لنا ناضحٌ فركبه أبو فلان وابنه، لزوجها وابنها، وترك ناضحًا ننضح عليه، قال حبيبٌ: قالت: أبو فلان - تعني زوجها - حج على أحدهما، والآخر يسقي أرضنا، قال: «فإذا كان رمضانُ، فاعتمري فيه؛ فإن عمرةً في رمضان حجةٌ» - وفي رواية - تقضي حجةً، أو حجةً معي))[6].
اللهم بارك لنا في أوقاتنا وأعمارنا، وتقبَّلْ منا صيامنا وسائر أعمالنا، وبلغنا منازل الشهداء، وأدخِلْنا الجنة مع الأبرار.
والحمد لله رب العالمين
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين
[1] البخاري: 6412.
[2] الطبراني في الكبير: 1/ 250، البيهقي في الشعب: 1083، أبو نعيم في الحلية: 1/ 221، وصححه الألباني في الصحيحة: 1890.
[3] أحمد: 1403، وابن ماجه: 3925، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
[4] البخاري: 1773، ومسلم: 1349.
[5] أحمد: 3669، والترمذي: 810، والنسائي: 2630، وصححه ابن خزيمة: 2512، وابن حبان: 3693، والألباني في الصحيحة: 1200.
[6] البخاري: 1782، ومسلم: 1256.
_____________________________________________
الكاتب: محمد بن محمود الصالح السيلاوي
- التصنيف: