قبيل الرحيل
علينا أن نستغل ما بقي من أيام هذا الشهر، فالأعمال بالخواتيم، ونحن نعيش أشرف الليالي والأيام
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
الظفرُ بالمحبوب واللقاءُ به هو غايةُ المنى، وكلما طال اللقاءُ زادت الأشواق إليه، واستبدَّ الوَلَهُ بصاحبه، وليل المحبين هو أشرف أزمانهم؛ ففيه تطيب المنادمة والمسامرة، ولا يعكر صفْوَ هذا المتعة إلا خوفُ الفِراق، وقديمًا قال الأول:
وَما في الأَرضِ أَشقى مِن مُحِبٍّ *** وَإِن وَجَدَ الهَوى حُلْوَ المَذاقِ
تَراهُ باكِيًا في كُلِّ وَقـــــــــــــتٍ *** مَخافَةَ فُرقَةٍ أَوْ لاشتِيــــــاقِ
فَيَبكي إِن نَأى شَوقًا إِلَيهِـــــــم *** وَيَبكي إِن دَنَوا خَوفَ الفِـراقِ
فَتَسخنُ عَينُهُ عِندَ التَّنائـــــــي *** وَتَسخنُ عَينُهُ عِندَ التَّلاقـــي
هذا في محبوب الدنيا فكيف بمحبوب يصل القلوب بسرِّ سعادتها في الدنيا والآخرة؟! كيف بمحبوب جاء يحمل إلينا الرحمة والبركات والعفو والمسرَّات والطمع في الجنة؟! كيف بمحبوب سلب قلوب الأتقياء والأصفياء فاستبشروا به وبشروا؟! نقول ذلك ونحن في آخر أيام الشهر وكأنما هو طيفٌ كان لقاؤه حلمًا جميلًا:
فاليوم آذن بالرحيل حبيبنـا *** وتنصَّفت أيام عشر أواخــره
يا صاحِ بادر باغتنام ختامه *** فسفينه قد أسرعت بمواخره
نعم، ما زالت الفرصة قائمة؛ فالأعمال بالخواتيم، وعلينا أن نغتنم ما بقي من شهرنا، ومن أعظم ما ينبغي الحرص عليه اللهج بما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»؛ (رواه الترمذي وصحَّحه الألباني) ، وفي هذا الدعاء هدايات منها:
أولًا: أن طلب العفو في هذه الليلة تأكيدٌ لمكانة هذه الليلة المباركة التي يكثر فيها الله العفو عن العباد، فإنها من أعظم فرص العفو.
وهو العفو فعفوه وسع الورى *** لولاه غار الأرض بالسكان
ثانيًا: أن التوسُّل باسم الله تعالى (العفو) من أعظم أسباب الفوز بعفوه سبحانه، فهو العفوُّ الذي يحب العفو والستر، ويصفح عن الذنوب مهما كان شأنها، ويستر العيوب، ولا يحب الجهر بها، يعفو عن المسيء كَرَمًا وإحسانًا، ويفتح واسع رحمته فضلًا وإنعامًا، فيطمع العبد في عظيم عفوه.
لك الحمد حقِّق ما نُرَجِّيه إننــــا *** لفيضٍ من الغُفْران جئنا نؤمـــــل
وأنت تحب العفو عن كل مذنب *** قريب من الداعي لشكواه تقبـــل
أتيناك بالأوزار نرجو خلاصنـــــا *** فأثقالها كم أرهقت كيف تُحمـــل
أتيناك نبغي فيض عفوٍ فهب لنـا *** من الفيض قطرًا بالمسرَّات يشمل
ثالثًا: في هذا الدعاء الاعتراف بالتقصير في حق الله جل وعلا والضراعة إليه بطلب العفو والصفح وإظهار الفقر والحاجة إليه سبحانه، فهذا نبينا صلى الله عليه يعلمنا سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بذنبي، وأبوء لك بنعمتك علي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، فكن مفتقرًا إلى ربك يا عبد تنل عظيم هباته، تذكَّر دعاء موسى عليه السلام: { {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} } فقير إلى عفوك، فقير إلى رحمتك، فقير إلى عتق رقبتي من النار، فقير إلى رزقك، فقير إلى هداية قلبي وصلاح ذريتي، قلها عبد الله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
رابعًا: في الدعاء حسن الظن بالله في قوله: (عفو تحب العفو) استشعار بأن الله كثير العفو؛ بل يحب العفو عن عباده، فيحسن المسلم ظنه بالله تعالى، ويقوى طمعه في عظيم عفوه، فينعم قلب المؤمن بالرجاء، كيف لا وهو يذكر قول ربه جلا وعلا: «أنا عند ظن عبدي بي إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ»؛ (رواه الطبراني بسند صحيح) .
وما أجمل توسُّل زكريا عليه السلام إلى ربه! بقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]؛ أي: ولم أعهد منك يا رب إلَّا الإجابة في الدُّعاء، ولم ترُدَّني قطُّ فيما سألتُك، فلا تقطع عادتك، ولا تمنع جميلك، وكما لم أشْقَ بدعائي فيما مضى، فأنا على ثقة أني لن أشقى به فيما بقي، فلنطمع عباد الله في عفو الله ورحمته ومغفرته، ولنحسن الظن بربنا جل وعلا، ولنعمر قلوبنا بحبِّه سبحانه.
علينا أن نستغل ما بقي من أيام هذا الشهر، فالأعمال بالخواتيم، ونحن نعيش أشرف الليالي والأيام، فكل الغبن أن نفرط فيها، قال ابن القيم رحمه الله: "والله سبحانه يعاقب من فتح له بابًا من الخير فلم ينتهزه بأن يحول بين قلبه وإرادته فلا يمكنه بعدُ من إرادته عقوبةً له". كونوا من أهل القيام والتهجُّد والذكر والدعاء والقرآن، عَمِّروا هذه الأوقات الشريفة، فقد لا تعود عليكم، فكم فقدنا من قريب وحبيب؟!
_________________________________________________________
الكاتب: أ. شائع محمد الغبيشي