مواصلة الطاعة بعد رمضان
كنا من أيام قليلة نعيش في جو عظيم، مليء بالسعادة والشجون، كان التنافس فيه من أجل إرضاء رب العالمين، فلنواصل الطاعة ولا نكون مثل ما قيل فيهم: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان).
كنا من أيام قليلة نعيش في جو عظيم، مليء بالسعادة والشجون، كان التنافس فيه من أجل إرضاء رب العالمين، فالصيام والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والإحسان كل ذلك كنا نحرص عليه في رمضان، ولم لا وهو شهر تضاعف فيه الأجور، وتعتق فيه الرقاب من النيران.
فخرج المحسنون بعظيم الثواب وجزيل الهبات، وخرج المتكاسلون المفرطون بالندم والخسران وكثير من الذنوب والآثام.
وهذا يدل على عدل الله تعالى بين عباده، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
وهكذا يكون الحال يوم القيامة عندما يفترق الفريقان إلى أشقياء وسعداء، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106- 108].
فهل ينظر الناس بعين الاعتبار قبل مفارقة الدنيا وملاقاة الله يوم العرض والجزاء، إننا نحتاج إلى مراجعة أوراقنا وحساباتنا قبل أن نترك هذه الدنيا ما دام في العمر بقية، قال عمر - رضي الله عنه -: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية).
فأين نحن من هذا الكلام؟ وأين نحن من مراجعة حساباتنا قبل يوم الحساب؟
إننا نحتاج إلى وقفات كي نستيقظ من سُبات الغفلة ونسير في طريق المحسنين الذين قدموا لأنفسهم الزاد، وعملوا ليوم تشيب فيه الرؤوس والولدان.
عباد الله:
إن بعض الناس يتعبدون في شهر رمضان خاصة، فيحافظون فيه على الصلوات في المساجد، ويكثرون من البذل والإحسان وتلاوة القرآن، فإذا انتهى رمضان تكاسلوا عن الطاعات، وبخلوا بما كانوا يبذلون من الصدقات، وعادوا إلى ما كانوا عليه قبل رمضان، ولم يعلم هؤلاء أن تكفير رمضان وغيره للسيئات مقيد باجتناب الكبائر، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»؛ (رواه مسلم)، وأي كبيرة بعد الشرك أعظم من إضاعة الصلاة؟ وهذا ما يقع فيه بعض الناس بعد رمضان.
إن اجتهاد بعض الناس في رمضان لا ينفع شيئاً عند الله إذا أُتبع بترك الواجبات والوقوع في المعاصي والسيئات. وقد سُئل بعض السلف عن قوم يجتهدون في شهر رمضان، فإذا انقضى ضيعوا وأساءوا، فقال: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان). لأن من عرف الله خافه في كل زمان ومكان.
عباد الله:
وأما المؤمنون الصادقون المحبون لربهم فيفرحون بانتهاء شهر رمضان لأنهم استكملوا فيه العبادة والطاعة لربهم، فهم يرجون أجره وثوابه من الله، ويتبعون ذلك أيضاً بلزوم العبادة تلو العبادة. قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 20- 22]، فهؤلاء يحرصون على صيام القضاء، وست من شوال، وصيام الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وقد بشر الله المتقين العاملين بقوله: {ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
عباد الله:
لقد مر شهر رمضان ومضت أيامه وطويت صحائفه، فمنا المحسن ومنا المسيء، فمن حسنت خاتمة عمله فاز بالرضا والرضوان والنعيم المقيم في الجنان، وأما من فرط وضيع ساءت خاتمة عمله فنال الخسران المبين والعذاب الأليم.
فالبدار البدار عباد الله بالأعمال الصالحة قبل أن يتخطفكم المنون، واحرصوا على العمل ولو كان قليلاً كي تفلحوا وتنجحوا، فرسولكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»؛ ( متفق عليه).
عباد الله:
ومن اتباع الطاعة بالطاعة بعد رمضان صيام الأيام التي أفطرها المسلم أو المسلمة في رمضان من أصحاب الأعذار، كالمريض والمسافر، والحائض والنفساء، وغيرهم. فينبغي في حقهم قضاء الأيام التي أفطروها قبل صيام التطوع، لأن قضاء أيام رمضان تكون في ذمتهم وهم محاسبون عليها، وأما التطوع فمن صام أجر، ومن لم يصم لم يأثم.
وقضاء رمضان يحتاج لمن أراد صيامه أن يبيت النية من الليل، ويكفيه أن يقوم ليتسحر ولو على شربة ماء ناوياً القضاء. ولا يجوز لمن دخل في صيام القضاء أن يفطر إلا من عذر كسفر أو مرض لأن بعض الناس يتساهل في ذلك ويحسب أنه لا حرج عليه.
عباد الله:
وبعض الناس يقول لمن صام وحصل نزهة أو مناسبة أفطر وصم يوماً آخر، وهذا خطأ ينبغي عدم الوقوع فيه لأن فيه مخالفة ظاهرة، فالقضاء إذا نوى المسلم صيامه لا يجوز له الفطر فيه كرمضان إلا من عذر كما ذكرنا، وأما التطوع فيجوز له أن يفطر ولا قضاء عليه لأن الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر.
وتقديم القضاء على صيام ست من شوال فيه سرعة براءة الذمة حيث قد يعرض للمسلم والمسلمة ظروف لا يستطيعون معها قضاء الصيام مستقبلاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد: 21].
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله،
واعلموا أن مما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وحث عليه اتباع صيام رمضان بصيام ست من شوال فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر كله»؛ (رواه مسلم).
وهذا الحديث فيه دلالة عظيمة على عظمة فضل الله تعالى حيث جعل صيام رمضان وست من شوال بأجر صيام سنة كاملة فلله الحمد والمنَّة. ونسأله سبحانه العون والمزيد من فضله.
عباد الله:
وصيام ست من شوال لا يحتاج إلى نية من الليل في أصح قولي العلماء، وإذا أصبح المسلم ولم ينو الصيام بالليل جاز له الصيام من النهار في أي وقت إذا كان لم يأكل أو يشرب.
ويجوز لمن صام الست من شوال أن يفرد يوم الجمعة بيوم منها ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
ومن الناس من يقول: إن صيام ست من شوال بدعة، وهذا يدل على ضعف النفس عن الطاعة، وهذا الكلام منافٍ للحديث الصحيح المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر كله»؛ (رواه مسلم)، فينبغي على المسلم أن يتحرى ما يقوله كي لا يقع في الإثم العظيم، قال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
ومن لم يرغب في صيام هذه الست فلا يكون سبباً في منع غيره من صيامها، فالتطوع أجره عظيم، ويكفي فخراً من صام الست من شوال وغيرها من صيام التطوع هذا الحديث العظيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى قال:... وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه»؛ (رواه البخاري).
عباد الله:
إن أعمارنا قصيرة، وأيامنا قليلة، وساعاتنا معدودة، ولكن من فضل الله تعالى علينا أن جعل لنا أعمالاً من أتى بها على الوجه المطلوب كتب له أجر عظيم، فكيف يليق بالمسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحرم نفسه من فضل الله، ألا يرى حاجته إلى ثواب الله، ألا يرى حاجته إلى رحمة الله، ألا يرى حاجته إلى فضل الله وجنته، وهل ينال الأجر إلا من وفى، وهل ينال الجنة إلا من بذل وسعى، وهل ينال مجاورة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين إلا من سابق في الأعمال الصالحة، وهل ينال النظر إلى وجه الله إلا من نظر إلى طاعة الله في الدنيا وحرص عليها وتزود منها وأحسن في حياته الدنيا.
فليحرص كل منا على طاعة الله في سائر أيام حياته، فالخير كل الخير في لزوم طريق الاستقامة، فمن أحب الله حرص على رضاه، واجتهد بكل وسعه على بلوغ فضله وجنته.
واعلموا عباد الله:
أن الدنيا دار ممر، والآخرة دار مستقر، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18- 19].
فاللهم إنا نسألك باسمك العظيم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت أن تجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه.
- التصنيف: