خسوف قمر
يرى المتفكِّر في الخلق والمتأمل في الخليقة - أن هذا الكون بما يَحويه مُفعمٌ بديمومة الحركة، لا ثباتَ فيه، فهذه أرضٌ تدور حول نجمِها، وشمسٌ تَجري لمستقرٍّ لها، وحتى الجبال الراسيات أُخبرنا أنها تَمرُّ مرَّ السحاب...
يرى المتفكِّر في الخلق والمتأمل في الخليقة - أن هذا الكون بما يَحويه مُفعمٌ بديمومة الحركة، لا ثباتَ فيه، فهذه أرضٌ تدور حول نجمِها، وشمسٌ تَجري لمستقرٍّ لها، وحتى الجبال الراسيات أُخبرنا أنها تَمرُّ مرَّ السحاب، وهبْ جدلًا أن البذرة التي طُمِرتْ لو سَكَنتْ لانْدَثَرتْ، ولكنها تَتَمَلْمَلُ في شوق لقطرِ الماء، متلهِّفةً تلهُّف حبيب لمحبوبه، وكذا الإنسان تَمضي به الأيام وتَلتهمه السنون وهو يسعى في مناكبها، لا يكفُّ ولا يَهدأ حتى تَحتضنه جدرانُ قبره، وذلك الساكن قليلُ الجهد، الراكن الذي لا يَملِك حِيلةً، يفتقد القدرةَ على الدَّوران في عجلة الحياة، فلا يُفيد ولا يستفيد، يُسمونه مسكينًا، وفُرِضَ على غيره منحُه قدرًا من زكاته ليَقتات.
فهكذا الليل والنهار، الجبل والمدَر، الجِرم السماوي، أو أصغر مخلوق أرضي، كلٌّ في حركة دائمة، وكأنها سُنة الله في خَلقه، جميعِ خَلقه، قاعدة لا تَستثني إلا استثناءً واحدًا طالَما أرَّقني، ألا وهو وجه القمر المقابل للأرض، ذلك الثابت الذي لا يتغيَّر، ومهما تطاوَل الزمن فلا يتبدَّل، وكثيرًا ما تمنَّيتُ أن أرى وجهَه الآخر؛ ليس حبًّا في مُعاينة الظُّلمة، لكن طمعًا في إرساء القاعدة.
في لحظة الخسوف راوَدني شعورٌ مُبهم، كوحي تدلَّى أو إلهامٍ تَجلَّى - أن هذا ما كنتَ تنتظر، وكأن القمر أبَى إلا أن يَضِنَّ عليَّ برؤية وجهه الآخر، ذلك الوجه المظلم، ولم يكتفِ بالإجابة عن سؤالي المؤرِّق، ولكنه نزَع إلى شد القوس إلى منتهاه، فلم يَعُد به مَنزعٌ، ثم دنا الخسوف يهمِس في أُذني في رِقَّة قائلًا: أترى القمر المنير، مثير البهجة في النفوس، سميرَ العشاق، رفيقَ السائرين، وأنيس الساهرين، كيف تحوَّل بين عشيَّة وضحاها إلى كُتلة قاتمة قميئة، شديدة الاحمرار، كوجهٍ متجِّهم يُثير في النفس انقباضًا ما، وتتردَّى الرُّوح مِن هَوْلِه في دَركات الألم؟!
وصمَت وهلةً وكأنه يرتِّب أفكارَه، أو يبحَث في معجمه عن كلمات تفِي بما يدور في رأسه، ثم استطرَد قائلًا: هكذا الإنسان منكم طالَما يُظهر الجانبَ المشرق البرَّاق، المنير كقمرٍ بوجهه المعتاد، وحالَما تنتابه لحظة مِن ضَعفٍ/ خسوف، ويُظهر جانبَه المظلمَ، فتَجلدونه بسِياط مِن الزَّجر، متناسين أنه بشرٌ يُخطئ ويُصيب؛ فالتمِسُوا للناس الأعذارَ إن ظهَر يومًا وجْهُهم الخاسفُ!
______________________________________________
الكاتب: د. شريف عوض الدخميسي
- التصنيف: