سورة الفلق وعلاج الشرور الأربعة
إنَّنا أمام كنوز ضَخْمة، وذخائر حيَّة، وأسلحة قويَّة، في مواجهة شرور الحياة ومصاعبها، وشدائدها والكائدين فيها، والماكرين والحاسدين، والسحرة المشعوذين الدجَّالين.
- التصنيفات: الذكر والدعاء -
عنْ أبي سعيدٍ قال: "كان رسول الله - صلى الله عليْه وسلم - يتعوَّذ من الْجانِّ وعيْن الإنْسان، حتَّى نزلَتِ الْمعوِّذتان، فلمَّا نزَلَتا أخذ بِهما، وترَك ما سواهما".
إنَّ هذه السُّورة والَّتي بعدها توجيهٌ من الله - سبحانه وتعالى - لنبيِّه - عليه السَّلام - ابتداءً، وللمؤمنين من بعده جميعًا، للعياذ بِكَنفه، واللِّياذ بِحِماه، من كلِّ مَخوف: خافٍ وظاهر، مَجْهول ومعلوم، على وَجْه الإِجْمال وعلى وَجْه التفصيل، وكأنَّما يَفْتح الله - سبحانه - لَهم حِمَاه، ويَبْسط لهم كنَفَه، ويقول لهم في مودَّة وعَطْف: تعالَوْا إلى هنا، تعالوا إلى الحِمَى، تعالوا إلى مَأْمَنِكم الذي تطمئنُّون فيه، تعالوا فأنا أعلم أنَّكم ضِعافٌ وأنَّ لكم أعداءً، وأنَّ حولكم مخاوِفَ، وهُنا.. هنا الأمن والطُّمأنينة والسَّلام.
والملاحِظ المتأمِّل، والمتمعِّن في السُّورة الكريمة، يَجِد أنَّها تُعالج شرورًا خفيَّة غيْر ظاهرة، وتأثيراتُها تَظْهر على المصاب دون أن تعرف مَن قام بِها في كثيرٍ من الأحيان، فقد تتَشاجر مع أحَدِ النَّاس - لا سمح الله - فتراه ويراك، وتشتكيه إلى المَحاكم، ويؤتَى بالشُّهود، أمَّا في هذه الشُّرور المذكورة فلا يَرى الفاعلَ إلاَّ اللهُ تعالى، أو إذا أخبر صاحبُها بارتكاب جريمته، وقليلاً جدًّا ما يحدث ذلك؛ ولذلك جاء الأمر الربَّاني يخصُّ هذه الشُّرورَ بالذِّكْر من بين كَثْرةٍ هائلة من الأخطار والآفات المُحدقة بالإنسان، وجاء الأمر الربَّاني كذلك بِطَلَبِ الغوث والمعونة، والاستجارة والاستعاذة بالله - سبحانه - من كلِّ الشُّرور بشكل عام، ومن هذه الشُّرور المذكورة بشكل خاص.
وإذا كان القرآن الكريم ذكَرَها مُجْمَلة، من غير تفصيل، فقد تكفَّلَت السُّنة المطهَّرة، وأتباعها من صحابة أجلاَّء، وتابعين كِرَام، وعلماء جهابذة ببيان كلِّ شرٍّ من هذه الشُّرور، معنًى، وخطورةً، وتَحذيرًا، وعلاجًا، وما أحوجَنا في هذا الزَّمان الذي كثرت فيه الشُّرور وتنوَّعَت، وتعدَّدَت أساليب الإيذاء واختلفَتْ، وتطوَّرَت التقنيات ووسائلُ التَّخريب والقتل، وظهَرْت فنون الجريمة وانتشرَتْ، أقول: ما أشدَّ حاجتَنا إلى مولانا يَحُوطنا برعايته، ويَكْلَؤنا بِحِفظه، ويُجيرنا من كلِّ سوءٍ وشرٍّ، ويبعد عنَّا كيد الكائدين، وعيونَ الحاسدين، وشعوذَة المشعوذين، وغدْرَ الغادرين؛ حيث تؤدِّي هذه الشرور التي ذُكرت في السورة الكريمة إلى الوفاة في بعض الأحيان، والجنون وفقدان الذَّاكرة وحالات صرَعٍ في أحيانٍ أخرى، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]:
لا بُدَّ من الصَّراحة في إعلان الحقيقة الكُبْرى، وهي أنَّ الإنسان مَخْلوق ضعيف، مفتَقِر إلى الله سبحانه في كلِّ أحواله، يقول خالِقُنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]؛ ولذلك دفعه خوفُه من الأشياء، وخشيتُه من الأخطار، إلى التعوُّذ والاستعانة بالجنِّ، والسِّحر، والأصنام، والأنداد والشُّركاء، ويظن أنَّ هذه الأشياء قادرة على حمايته، وتوفير الأمن والطُّمأنينة له، وهو واهِمٌ في ذلك؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
والاستعاذة معناها - كما جاء في "لسان العرب" -: "عاذ به يَعُوذُ عَوْذًا وعِياذًا ومَعاذًا: لاذَ به ولَجأَ إِليه واعتصم، يُقال: عَوَّذْتُ فلانًا بالله وأَسمائِه، وبالْمُعَوِّذتَيْن، إِذا قلتَ: أُعِيذك بالله وأَسمائه من كلِّ ذي شرٍّ، وكل داء وحاسد وحَيْنٍ".
"فالاستعاذة حالة نفسيَّة، قوامها الخشية من الخطر، والثِّقة بِمَن يُستعاذ به، وهي إلى ذلك مُمارسة عمليَّة بابتغاء مرضاة مَن نستعيذ به، وهي - فوق ذلك - الثِّقة بأنَّه وحده القادر على دَرْء الخطر، وإنقاذ الإنسان".
أمَّا الفلق، فقد اختَلَفوا فيه اختلافًا كبيرًا، فمِنْ قائل: إنَّه بِئْر في جهنم، تَحْترق جهنَّمُ بناره، إلى قائل: بأنه الصُّبْح، أو الخَلْق، أو ما اطمأنَّ من الأرض، أو الجبال والصُّخور، قال ابن جرير: "والصواب القول الأول: إنَّه فلَقُ الصُّبح، وهذا هو الصَّحيح، وهو اختيار البخاريِّ في "صحيحه" - رحمه الله تعالى - "قال المفسِّرون: سبب تَخْصيص الصُّبح بالتعوُّذ أنَّ انبِثَاق نور الصُّبح بعد شدَّة الظُّلمة، كالْمَثَل لِمَجِيء الفرَج بعد الشدَّة، فكما أنَّ الإِنسان يكون منتظرًا لِطُلوع الصَّباح، فكذلك الخائف يترقَّب مجيء النجاح[1].
أنواع الشرور المذكورة والمستعاذ منها في السورة الكريمة:
الأول: الشر العام: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]:
ويشمل الشرور البارزة والخفية:
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]؛ "أيْ: من شر خلْقِه إطلاقًا وإجمالاً، وللخلائق شرورٌ في حالات اتِّصال بعضها ببعض، كما أنَّ لها خيرًا ونفعًا في حالات أخرى، والاستعاذة بالله هنا من شرِّها ليبقى خيْرُها، والله الذي خلقَها قادرٌ على توجيهها وتدبير الحالات التي يتَّضِح فيها خيْرُها لا شرُّها".
ولِهذا كان - عليه الصلاة والسلام - يستعيذ من أشياء كثيرة، نَذْكُر منها مثلاً: ما روَتْه السيِّدة عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليْه وسلم - كان يدْعو في الصلاة: «اللَّهم إنِّي أعوذ بك منْ عذاب الْقبْر، وأعوذ بك منْ فتْنة الْمسيح الدجَّال، وأعوذ بك منْ فتْنة الْمحْيا وفتْنة الْممات، اللهم إني أعوذ بك من الْمَأْثم والْمغْرَم»، فقال له قائلٌ: ما أكْثرَ ما تسْتعيذ من الْمغْرم؟ فقال: «إنَّ الرجل إذا غرم حدَّث فكَذب، ووعَد فأخْلف».
وكان الأنبياء والرُّسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - يلتَجِئون ويعتصمون ويستجيرون بالله من أنواع الشُّرور المختلفة؛ فهذا إبراهيم - عليه السَّلام - يطلب من ربِّه أن يبعده وأبناءَه من شرِّ عبادة الأصنام، التي أضلَّت الكثير من البشر: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وهذا يوسف - عليه السَّلام - يلتجئ إلى الله من شرِّ مكْر النساء اللَّواتي أرَدْنَ به الكيد والوقوعَ فيما يسخط الخالق: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33].
وهذا يعقوب - عليه السَّلام - لَمَّا حصَل لِيُوسف وأخيه ما حصل، وَثق بأنَّ الله سبحانه سيحفَظُهما من الشُّرور والمكايد، فقال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [يوسف: 64].
وهذا نبِيُّ الله موسى - عليه السَّلام - يستعيذ بالله خالقِه وخالق قومه من أن يَمسَّه قومُه بسوء سواء بالقول أو الفعل: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20].
الشرُّ الثاني: {غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3]:
قالوا: "الغسق: شدَّة الظلام، والغاسق: هو اللَّيل أو مَن يتحرَّك في جوفه، والوَقب: الدُّخول، قال ابن عبَّاس، ومحمد بن كعب القرظي، والضحَّاك، والحسن، وقتادة: إنَّه اللَّيل إذا أقبل بظلامه"، والمقصود هنا - غالبًا - هو الليل وما فيه الليل حين يتدفَّق فيغمر البسيطة، والليل حينئذٍ مَخُوف بذاته، فضلاً على ما يُثِيره من توقُّعٍ للمجهول الخافي من كلِّ شيء؛ من وحش مُفْترس يهجم، ومتلصِّص فاتكٍ يقتحم، وعدوٍّ مُخادع يتمكَّن، وحشرة سامَّة تزحف، ومن وساوس وهواجس وهُموم وأشجان تتسرَّب في الليل، وتَخْنق المشاعر والوجدان، ومن شيطانٍ تُساعده الظُّلمة على الانطلاق والإيحاء، ومن شهوةٍ تستيقظ في الوحدة والظَّلام، ومن ظاهرٍ وخافٍ يدبُّ ويثب، في الغاسق إذا وقب".
نعم، "يهبط اللَّيل بظلامه ووسواسه وطوارِقِه، ويتحرَّك في جُنْحِه الهوام وبعضُ الوحوش، وينشط المُجرمون والكائدون، ويستولي المرض والْهَمُّ على البعض، وتشتدُّ الغرائز والشَّهوات في غيبة من الرقابة الاجتماعيَّة، ويحتاج الإنسان إلى مضاءِ عزيمة وثقة؛ حتَّى يتغلب عليه وعلى أخطاره، وهكذا يستعيذ بالله منه".
قال الرازيُّ: "وإِنَّما أُمِر أن يتعوَّذ من شرِّ الليل؛ لأنَّ في الليل تَخْرج السِّباع من آجامها، والهوام من مكانِها، ويهجم السارقُ والمكابر، ويقع الحريق، ويقلُّ فيه الغوث".
ولِهذا نَهى النبِيُّ - عليه الصلاة والسلام - المسلمَ أن يَمْشي في اللَّيل وحْدَه؛ فعَن ابْن عمر أنَّ رسول الله - صلى الله عليْه وسلم - قال: «لوْ أن الناس يعْلمون ما أعْلم من الوحْدة؛ ما سرى راكبٌ بليْلٍ»؛ يعْني: وحْده.
ولهذا أيضًا كان من توجيهات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ألاَّ يُسافر المرء وحده، بل مع رَكْب، أقلُّه ثلاثة: «الواحد شيطان، والاثنان شيطانانِ، والثلاثة رَكْب».
الشر الثالث: {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]:
والنَّفَّاثات: "السَّواحر السَّاعيات بالأذى عن طريق خداع الحواسِّ، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النُّفوس والتأثير والمشاعر، وهُنَّ يَعْقِدن العُقَد في نَحْو خيط أو منديل، ويَنْفثْن فيها كتقليدٍ من تقاليد السِّحر والإيحاء، والسِّحر لا يغيِّر من طبيعة الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدة لها، ولكنه يُخيِّل للحواسِّ والمشاعر بِما يريده السَّاحر".
وقد شنَّ الإسلام على السِّحر حربًا ضَروسًا لا هوادة فيها، يقول تعالى فيمن يتعلَّمون السِّحر: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102].
وقد عدَّ النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - السِّحر من كبائر الذُّنوب الموبقات، التي تُهْلِك الأُمَم قبل الأفراد، وتُردِي أصحابَها في الدُّنيا قبل الآخرة.
عنْ أبي هُريْرة - رضي الله عنْه - عن النبِيِّ - صلَّى الله عليْه وسلم - قال: «اجْتنبوا السَّبْع الْموبقات»، قالوا: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: «الشِّرْك بالله، والسِّحْر، وقتْل النَّفْس التي حرَّم الله إلا بالْحقِّ، وأكْل الرِّبا، وأكْل مال الْيتيم، والتولِّي يوْم الزَّحْف، وقذْف الْمحْصنات الْمُؤْمنات الغافلات».
وقد اعتبَر بعضُ فقهاء الإسلام السِّحر كفرًا، أو مؤدِّيًا إلى الكفر، وذهب بعضهم إلى وجوب قَتْل الساحر؛ تطهيرًا للمجتمع من شرِّه.
وكما حرَّم الإسلام على المسلم الذَّهاب إلى العرَّافين لسؤالِهم عن الغيوب والأسرار، حرَّم عليه أن يلجأ إلى السِّحر أو السَّحَرة لعلاج مرضٍ ابتُلِي به، أو حلِّ مشكلة استعصَتْ عليه، فهذا ما بَرِئ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - منه، قال: «ليس منَّا من تطيَّر أو تُطُيِّر له، أو تكهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له»، فالْحُرمة هنا ليست على السَّاحر وحده، وإنَّما هي تشمل كلَّ مؤمنٍ بسِحْره، مشجِّعٍ له، مصدِّقٍ لما يقول، وتشتدُّ الحرمة وتَفْحش إذا كان السِّحر يُستعمَل في أغراض هي نفسها محرَّمة، كالتَّفريق بين المرء وزوجِه، والإضرار البدَنِي، وغير ذلك مِمَّا يُعرف في بيئة السَّحَّارين".
وقد ابتُلِيَت مُجتمعات المسلمين بِهذا الشرِّ العظيم، وانتشر السَّحَرة والمشعوذون بِصُورة لم يَسْبق لها مثيلٌ، وصار النَّاسُ يذهبون إلى العرَّافين والسَّحَرة المُفْسِدين يبتغون عندهم العلاج والشِّفاء، فعمَّ البلاء وطمَّ؛ ولذا كان للإسلام هدْيُه الخاصُّ في علاج السِّحر، قوامه وعمادُه الاستعاذةُ بالله، والرُّكون إليه، والاستعانة به، فإنَّ السِّحر داءٌ خفيٌّ ومستَتِر، يَحتاج إلى علاج خاصٍّ، وهذا العلاج ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يُتَّقى به السحر قبل وقوعه، ومن ذلك:
أولاً: تَجْديد الإيمان في النُّفوس كلَّما آنسَ المرء من نفسه ضعفًا، والالتجاء إلى الله كلَّما خاف المرء على نفسه عدوًّا، ومن يركن إلى الله فإنَّما يأوي إلى رُكْن شديد، ومَن يتوكَّلْ على الله فهو حسْبُه.
ثانيًا: نَشْر العلم بقضايا العقيدة، والحرص على سلامتها، وبيان ما يَخْدِشها، وتعميم الوعي بِمَخاطر السِّحر والشعوذة، وتَحْذير الناس منها بمختلف وسائل الإعلام.
ثالثًا: إصلاح البيوت وعِمارتُها بالذِّكر والصَّلاة وتلاوة القرآن، فهل نُحصِّن بيوتنا ونَحْفظ أنفُسَنا وأولادنا وأهلينا بذِكْر الله والصَّلاة وتلاوة القرآن؟ مع استِبْعاد كلِّ ما يَجْمع الشياطين من الصُّور والكلاب والغناء، ونَحْوها من المنكرات الأخرى.
رابعًا: أكل سبع تَمراتٍ على الرِّيق صباحًا إِذا أمكن؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَن اصطبح بسبع تَمرات عجوةً، لم يضُرَّه ذلك اليوم سُمٌّ ولا سحرٌ».
خامسًا: أمَّا الحِصْن الحصين والسبب الوافي المنيع - بإذن الله - من كلِّ سوء ومكروه، فهو المُحافظة على الأوراد الشَّرعية في الصَّباح والمساء، وهي صالِحة للاستشفاء قبل وقوع السِّحر أو بعد وقوعه، وكيف لا؟ وهي الأدوية الإلَهِيَّة كما يسمِّيها ابنُ القيِّم - رحمه الله.
ومن ذلك: «بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم» ثلاث مراتٍ في الصباح والمساء، وقراءة آية الكرسيِّ دبُرَ كلِّ صلاةٍ وعند النوم، وفي الصباح والمساء، وقراءة "قل هو الله أحدٌ" والمعوِّذتين ثلاث مراتٍ في الصباح والمساء، وعند النوم، وقول: «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قديرٌ» مائة مرةٍ كلَّ يوم، والمحافظة على أذكار الصَّباح والمساء، والأذكار أدبار الصلوات، وأذكار النَّوم والاستيقاظ منه، وأذكار دخول المَنْزل والخروج منه، وأذكار الرُّكوب، وأذكار دخول المسجد والخروج منه، ودعاء دخول الخلاء والخروج منه، ودعاء مَن رأى مُبتلًى، وغير ذلك، ولا شكَّ أنَّ المحافظة على ذلك من الأسباب التي تمنع الإِصابة بالسِّحر، والعين والجانِّ - بإذن الله تعالى - وهي أيضًا من أعظم العلاجات بعد الإصابة بِهذه الآفات وغيرها[2].
القسم الثاني: علاج السحر بعد وقوعه، وهو أنواعٌ:
النوع الأول: استخراجُه وإبطاله إذا عُلم مكانه بالطُّرق المباحة شرعًا، وهذا من أبلغ ما يُعالَج به المسحور.
النوع الثاني: الرُّقية الشرعية:
من القرآن الكريم:
تُقرأ سورة الفاتحة، وآية الكرسيِّ، والآيتَان الأخيرتَان من سورةِ البقرة، وسورة الإِخلاص، والمعوِّذتان ثلاث مراتٍ أو أكثر، مع النَّفْث، ومسح الوجع باليد اليمنى.
التعوُّذات والرُّقى والدعوات الجامعة من السُّنة النبويَّة:
«أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك»؛ (سبع مرات).
يضع المريضُ يده على الذي يُؤْلِمه من جسده ويقول: «بسم الله» ثلاث مراتٍ، ويقول: «أعوذُ بالله وقدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر»؛ (سبع مراتٍ).
«اللهم ربَّ الناس، أذهِب الباس، واشْفِ أنت الشافي، لا شفاء إِلاَّ شفاؤك، شفاءً ولا يُغادر سقمًا».
«أعوذ بكلمات الله التامَّات من كلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كلِّ عينٍ لامَّةٍ».
«بسم الله أرقيك، من كلِّ شيءٍ يُؤذيك، ومن شرِّ كلِّ نفسٍ أو عين حاسدة، الله يشفيك، بسم الله أرقيك».
وهذه التعوُّذات، والدَّعوات، والرُّقى وغيرها مِمَّا صحَّ عن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعالَج بِها من السِّحر، والعين، ومسِّ الجان، وجميع الأمراض، فإِنها رُقًى جامعةٌ نافعةٌ - بإِذن الله تعالى.
النوع الثالث: الأدوية الطبيعيَّة، فهناك أدويةٌ طبيعيةٌ نافعةٌ، دلَّ عليها القرآن الكريم والسَّنة المطهَّرة، إذا أخذها الإِنسان بيقينٍ وصدقٍ وتوجُّهٍ، مع الاعتقاد أن النفْع من عند الله، نفَعَ الله بِها - إِن شاء الله تعالى - كما أنَّ هناك أدويةً مركَّبة من أعشاب ونحوها، وهي مبنيَّة على التجربة، فلا مانع من الاستفادة منها شرعًا ما لم تكن حرامًا، ومن العلاجات الطبيعية النافعة - بإذن الله تعالى -: العسل، والحبَّة السوداء، وماء زمزم، وماء السماء، وزيت الزيتون، والاغتسال والتنظُّف والتطيُّب.
الشر الرابع: {حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]:
يقول القرطبِيُّ: "الحسد أوَّل ذَنْب عُصِي الله به في السَّماء، وأوَّل ذنب عُصي به في الأرض؛ فحسَدَ إبليسُ آدمَ، وحسدَ قابيلُ هابيلَ، والحاسد مَمْقوت، مبغوض، مَطْرود، ملعون".
ويقول أيضًا: "وقيل: الحاسد لا ينال في المَجالس إلاَّ ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلاَّ لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلاَّ جزعًا وغمًّا، ولا ينال في الآخرة إلاَّ حزنًا واحتراقًا، ولا ينال من الله إلاَّ بعدًا".
وجاء في "مُختار الصحاح": الحسد: "أن تتمنَّى زوال نِعْمة المَحْسود إليك".
وقال الأخفش: "وبعضهم يقول: يَحْسِده - بالكسر - حَسَدًا - بفتحتين - وحسَدَه على الشيء، وحسدَه الشَّيءَ بِمعنًى، وتحاسد القومُ، وقومٌ حسَدَةٌ كحامِل وحَمَلة".
قال الثعالبي: "وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] قال قتادة: مِنْ شَرِّ عَيْنِه ونَفْسِه، يريد بـ"النَّفْس": السعْيَ الخَبِيثَ.
وقال الحُسيْن بنُ الفضْل: ذكَر اللَّهُ تعالى الشُّرُورَ في هذه السُّورة، ثم ختمها بالحَسَدِ؛ ليعلم أنَّه أخسُّ الطَبائع".
ولعلَّ من أنواع الحسد الشديدة الخطورةِ "العيْنَ"؛ فقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الذي رواه ٍ أبو هريْرة - رضي الله عنْه -: «العيْن حقٌّ».
وعن ابْن عباسٍ عن النبي - صلى الله عليْه وسلم - قال: «العيْن حقٌّ، ولوْ كان شيْءٌ سابق الْقدر سبقتْه العيْن».
أما علاج الإصابة بالعين، فأقسام:
القسم الأول: قبل الإصابة، وهو أنواع:
التحصُّن وتَحْصين من يُخاف عليه بالأذكار، والدَّعوات، والتعوُّذات المشروعة كما في القسم الأول من علاج السِّحر، وأن يدعو من يَخْشى أو يخاف الإِصابة بِعَينه - إِذا رأى من نَفْسِه أو ماله أو ولَدِه أو أخيه أو غير ذلك مِمَّا يُعجبه - بالبَرَكة "ما شاء الله، لا قوة إِلا بالله، اللَّهم بارك عليه"؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إِذا رأى أحَدُكم من أخيه ما يُعجبه، فلْيَدْعُ له بالبَرَكة»، وكذلك ستر محاسن من يُخاف عليه العين.
القسم الثاني: بعد الإِصابة بالعين، وهو أنواع:
إِذا عُرف العائن أُمِر أن يتوضَّأ ثُمَّ يغتسل منه المصاب بالعَيْن.
الإِكثار من قراءة "قل هو الله أحد" والمعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسيِّ، وخواتيم سورة البقرة، والأدعية المشروعة في الرُّقية، مع النَّفث ومسح موضع الألم باليد اليمنى، كما ذكرنا في علاج السِّحر.
القسم الثالث: عمل الأسباب التي تدفع عين الحاسد، وهي كالتالي:
الاستعاذة بالله من شرِّه، وتَقْوى الله وحفظه عند أمْرِه ونَهْيه سبحانه؛ ((احفظ الله يحفظك)).
والصبر على الحاسد، والعفو عنه، فلا يُقاتله، ولا يَشْكوه، ولا يُحدِّث نفسه بأذاه، والتَّوكُّل على الله؛ فمن يتوكَّل على الله فهو حسبه، ولا يَخافُ الحاسد ولا يَملأ قلبه بالفِكْر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، والإِقبال على الله، والإِخلاص له، وطلب مرضاته سبحانه، والتوبة من الذُّنوب؛ لأنَّها تُسلِّط على الإِنسان أعداءه؛ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
والصدقة والإِحسان ما أمكن؛ فإِن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دَفْع البلاء والعين وشرِّ الحاسد، وإِطفاء نار الحاسد والباغي والمُؤْذي بالإحسان إِليه، فكلَّما ازداد لك أذًى وشرًّا، وبغيًا وحسدًا، ازددْتَ إليه إِحسانًا، وله نصيحةً، وعليه شفقةً، وهذا لا يُوفَّق إليه إِلا مَن عَظُم حظُّه من الله، وتجريد التوحيد وإِخلاصه للعزيز الحكيم الذي لا يضرُّ شيءٌ ولا ينفع إِلاَّ بإِذنه سبحانه، وهو الجامع لذلك كلِّه، وعليه مدار هذه الأسباب، فالتوحيد حِصْنُ الله الأعظم، الذي مِن دخله كان من الآمِنين، فهذه عشرة أسباب يندفع بها شرُّ الحاسد والعائن والساحر.
كلمة أخيرة:
إنَّنا أمام كنوز ضَخْمة، وذخائر حيَّة، وأسلحة قويَّة، في مواجهة شرور الحياة ومصاعبها، وشدائدها والكائدين فيها، والماكرين والحاسدين، والسحرة المشعوذين الدجَّالين.
فهذه السُّورة وأختها (سورة الناس) آياتٌ بيِّنات تَذْكر الدَّاء والدواء، وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يوليهما عناية خاصة.
المصدر:
• موقع صيد الفوائد (بتصرُّف).
• "الشرور الأربعة المذكورة في سورة الفلق، وكيف عالَجَها الإسلام"؛ بقلم إبراهيم عطية السعودي.
[1] http: //saaid.net/bahoth/14.htm.
[2] المصدر السابق.
____________________________________________________
الكاتب: د. محمد السقا عيد