حديث: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه
قال ﷺ «إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحق، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
عن عائشة - رضي الله عنها - أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمه أسامة، فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟، ثم قام فاختطب فقال: «إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحق، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
وفي لفظ: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها.
قوله: (أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت)، زاد يونس في روايته في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، وفي حديث مسعود بن أبي الأسود عند ابن ماجه: لَما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكلِّمه.
قال الحافظ: وسبب إعظامهم ذلك خشية أن تقطع يدها، لعلمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرخص في الحدود، وكان قطع السارق معلومًا عندهم قبل الإسلام، ونزل القرآن بقطع السارق، فاستمر الحال فيه.
قوله: (من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم).
قال الحافظ: أي يشفع عنده فيها ألا تقطع إما عفوًا وأما بفداءٍ، وقد وقع ما يدل على الثاني في حديث مسعود بن الأسود، ولفظه بعد قوله: أعظمنا ذلك، فجئنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية، فقال: تطهر خير لها، وكأنهم ظنوا أن الحد يسقط بالفدية كما ظن ذلك من أفتى والد العسيف الذي زنا بأنه يفتدي منه بمائة شاة ووليدة.
قوله: (ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم).
قال الحافظ: والجرأة هي الإقدام بإدلال، والمعنى ما يجترئ عليه إلا أسامة، وقال الطيبي: الواو عاطفة على محذوف تقديره لا يجترئ عليه أحدٌ لمهابته، لكن أسامة له عليه إدلالٌ، فهو يجسر على ذلك.
قوله: (فكلَّمه أسامة)، وفي رواية: فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه فيها، وعند النسائي: فتلوَّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاد شعيب عند النسائي: وهو يكلِّمه، وفي مرسل حبيب بن أبي ثابت: فلما أقبل أسامة ورآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تكلمني يا أسامة».
قوله: فقال: «أتشفع في حد من حدود الله» بهمزة الاستفهام الإنكاري؛ لأنه كان سبق له من الشفاعة في الحد قبل ذلك، زاد يونس وشعيب، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله.
قوله: (ثم قام فاختطب)، وفي رواية: فلما كان العشي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا.
قوله: «إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»، وعند أبي الشيخ عن عائشة مرفوعًا: إنهم عطلوا الحدود عن الأغنياء وأقاموها على الضعفاء.
قوله: «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها»، وفي رواية: والذي نفس محمد بيده.
قال الحافظ: وقد ذكر ابن ماجه عن محمد بن رمح شيخه في هذا الحديث: سمعت الليث يقول عقب هذا الحديث: قد أعاذها الله من أن تسرق، وكل مسلم ينبغي له أن يقول هذا، ووقع للشافعي أنه لما ذكر هذا الحديث، قال: فذكر عضوا شريفًا من امرأة شريفة، واستحسنوا ذلك منه لِما فيه من الأدب البالغ، وإنما خص - صلى الله عليه وسلم - فاطمة ابنته بالذكر؛ لأنها أعز أهله عنده، ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلَّف، وترك المحاباة في ذلك، ولأن اسم السارقة وافق اسمها عليها السلام، فناسب أن يضرب المثل بها؛ انتهى.
زاد يونس في روايته: ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها، وعند النسائي من حديث ابن عمر: قمْ يا بلال، فخذ بيدها، فاقطعها، وفي رواية قالت عائشة: فحسُنت توبتها بعدُ وتزوَّجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند الحاكم قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعد ذلك يرحمها ويَصِلها، وفي حديث عبدالله بن عمرو عند أحمد أنها قالت: هل لي من توبة يا رسول الله، فقال: «أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمُّك».
قوله: (وفي لفظ: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها)، وأخرج عبدالرزاق عن أبي بكر بن عبدالرحمن أن امرأة جاءت امرأة، فقالت: إن فلانة تستعيره حُليًا فأعارتها إياه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها، فسألتها فقالت: ما استعرتك شيئًا، فرجعت إلى الأخرى، فأنكرت، فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاها فسألها، فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئًا، فقال: «اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها»، فأتوه فأخذوه، وأمر بها فقُطعت؛ الحديث، وعند أبي داود والنسائي عن ابن عمر أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها.
قال الحافظ: (وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع في جحد العارية، وهي رواية عن أحمد، وأجابوا عن الحديث بأن رواية من روى سرقت أرجح، قال: وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أن القصة لامرأة واحدة استعارت وجحدت وسرقت، فقطعت للسرقة لا للعارية، قال ابن المنذر: وبذلك نقول، وقال الخطابي: وإنما ذكرت العارية والجحد في هذه القصة تعريفًا لها بخاص صفتها؛ إذ كانت تكثر ذلك، كما عرفت بأنها مخزومية، وكأنها لَما كثُر منها ذلك ترقت إلى السرقة، وتجرأت عليها، وقال ابن دقيق العيد: صنيع صاحب العمدة؛ حيث أورد الحديث بلفظ الليث، ثم قال: وفي لفظ فذكر لفظ معمر يقتضي أنها قصة واحدة، واختلف فيها هل كانت سارقة أو جاحدة، وعلى هذا فالحجة في هذا الخبر في قطع المستعير ضعيفة؛ لأنه اختلاف في واقعة واحدة، فلا يبت الحكم فيه بترجيح من روى أنها جاحدة على الرواية الأخرى، يعني وكذا عكسه، فيصح أنها قطعت بسبب الأمرين، والقطع في السرقة متفق عليه، فيترجح على القطع في الجحد المختلف فيه).
قال الحافظ: (وهذه أقوى الطرق في نظري)؛ انتهى.
قال بعض العلماء: من استعار على لسان غيره مخادعًا للمستعار منه، ثم تصرف في العارية وأنكرها لَما طولب بها، فإن هذا لا يقطع بمجرد الخيانة، بل لمشاركته السارق في أخذ المال خفية.
قال الحافظ: (وفي هذا الحديث من الفوائد منع الشفاعة في الحدود إذا انتهى ذلك إلى أُولي الأمر، قال ابن عبدالبر: لا أعلم خلافًا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة، ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته، وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرَّق بين من عرف بأذى الناس، ومن لم يُعرف، فقال: لا يشفع للأول مطلقًا، سواء بلغ الأمام أم لا، وأما من لم يعرف بذلك، فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام، قال: وفيه قبول توبة السارق ومنقبة لأسامة، قال: وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه، ولو كان ولدًا أو قريبًا أو كبير القدر، والتشديد في ذلك، والإنكار على مَن رخَّص فيه، أو تعرَّض للشفاعة فيمن وجب عليه، وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر للمبالغة في الزجر عن الفعل، ومراتب ذلك مختلفة، ولا يَخفى ندب الاحتراز من ذلك؛ حيث لا يترجَّح التصريح بحسب المقام، وفيه جواز التوجع لمن أُقيم عليه الحد بعد إقامته عليه، وقد حكى الكلبي في قصة أم عمرو بنت سفيان أن امرأة أسيد بن حضير أوتها بعد أن قطعت وصنعت لها طعامًا، وأن أسيدًا ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - كالمنكر على امرأته، فقال: «رحِمتها رحمها الله، وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم، ولا سيما من خالف أمر الشرع»؛ (انتهى والله المستعان).
________________________________________________________
الكاتب: الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك