من درر العلامة ابن القيم عن الذنوب والمعاصي (4)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن الذنوب تُزيلُ النِّعم
فآفتك من نفسك, وبلاؤك منك, وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك, وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
" طريق الهجرتين وباب السعادتين "
- أسباب الصبر على المعصية
الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: علمُ العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها, وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانةً لعبده وحمايةً عن الدنايا والرذائل, كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره, وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلَّق عليها وعيد بالعذاب.
السبب الثاني: الحياء من الله عز وجل, فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومستمع, وكان حيًّا حييًّا, استحيا من ربه أن يتعرض لمساخطه.
السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك, فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد, فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب, فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها, وإن أصر لم ترجع إليه, ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمةً نعمةً حتى يُسلب النعم كلها, قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ } [الرعد:11] وأعظم النعم الإيمان, وذنبُ الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة تزيلها وتسلبها.وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها, كما تأكل النارُ الحطب, عياذاً بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.
السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه, وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده, والإيمان به وبكتابه ورسوله, وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين, ويضعف بضعفهما, قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] قال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً, وبالاغترار به جهلاً.
السبب الخامس: قصر الأمل, وعلمه بسرعة انتقاله فهو حريص على ترك ما يضره
السبب السادس: محبة الله سبحانه وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه فإن المحبّ لمن يحب مطيع, وكلما قوى سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى, وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها
وههنا لطيفة يجب التنبه لها, وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه, فإذا قارنها الإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة, وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أُنس وانبساط وتذكر واشتياق, ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها, ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله, ولكن لا تحمله على ترك معاصيه, وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم, فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه, وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
السبب السابع: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتهُا وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها, وتخفض منزلتها وتُحقرها, وتسوي بينها وبين السفلة.
السب الثامن: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية, وقبح أثرها, والضر الناشئ منها:
من سواد الوجه, وظلمة القلب, وضيقه وغمه وحزنه وألمه, وانحصاره, وشدة قلقه واضطرابه, وتمزق شمله, وضعفه عن مقاومة عدوه
ومنها: ذلة بعد عزة.
ومنها: زوال أمنه وتبدله به مخافة, فأخوف الناس أشدهم إساءة.
ومنها: نقصان رزقه, فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه.
ومنها: ضعف بدنه.
ومنها: حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس.
ومنها: الطبع والرين على قلبه فإن العبد إذا أذنب نُكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب منها صُقل قلبه وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه فذلك هو الران قال تعالى ﴿ {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ﴾
ومنها: أنه يحرم حلاوة الطاعة.
ومنها: علمه بفوات ما هو أحبّ إليه وخير له منها من جنسها, وغير جنسها, فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا, ولذة ما في الآخرة, كما قال الله تعالى: ﴿ { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } ﴾ [الأحقاف: 20] فالمؤمن لا يذهب طيباته في الدنيا, بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة, وأما الكافر فلأنه لا يؤمن بالآخرة, فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا.
ومنها: علمه بأن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه, شفيعه عند ربه, والمخاصم والمحاج عنه, فإن شاء جعله له, وإن شاء جعله عليه.
ومنها: أنه بالمعصية قد تعرض لمحق بركته في كل شيءٍ من مر دنياه وآخرته, فإن الطاعة تجلب للعبد بركات كل شيء, والمعصية تمحق كل بركة.
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس...ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه
السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها, وهو: ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد على المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه.
إذا كان للذنوب عقوبات ولا بد, فكلُّ ما عُوقب به العبدُ من ذلك قبل الموت خير له مما بعده وأيسر وأسهلُ كثيراُ.
- سلب النعم:
الله سبحانه...يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته, فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما
أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك, وأنت المعوق لوصول فضله إليك, وأنت حجر في طريق نفسك, وهذا الأمر هو الأغلب على الخليقة, فإنه سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا يُنال إلا بطاعته, وأنه ما استُجلبت نعم الله بغير طاعته, ولا استُديمت بغير شكره, ولا عُوقت وامتنعت بغير معصيته, وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استثار بها عليك, وإنما أنت السبب في سلبها عنك, فإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الأنفال:53] فما أُزيلت نعمُ الله بغير معصيته:
إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن الذنوب تُزيلُ النِّعم
فآفتك من نفسك, وبلاؤك منك, وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك, وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك.
ولو شعرت بدائك, وعلمت من أين دُهيت ومن أين أُصبت, لأمكنك تدارك ذلك
ولكن فسدت الفطرة وانتكس القلب, وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه, فأعرضت عمَّن أصلُ بلائك ومصيبتك منه, وأقبلت تشكو من كلُّ إحسان دقيق أو جليل وصل إليك منه, فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين وقد رأى رجلاً يشكو إلى آخر ما أصابه: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.