الإسلام وحرفة الصناعة
محسن العزازي
يَقُولُ النَّاسُ لي في الكسْبِ عارٌ*** فقلتُ العارُ في ذلِّ السؤالِ
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
من غايات الإسلام عمارة الأرض قال تعالى: { {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} } [هود : 61]، ولا يتحقق الإعمار إلا بالعمل الجاد ولذ أمر الإسلام بالسعي، قال تعالى: { {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} } [الملك : 15]، ومن مظاهر السعي التي حرص الإسلام على تقويتها في المجتمع حرفة الصناعة ومنها:
صناعة السفن فهو أمر الله تعالى لنبيه نوح عليه السلام: { {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} } [هود: 37]، ” فاللهُ أمرَهُ أنْ يصنعَهَا مِن خشبِ الساجِ، وأنْ يجعلَ طولَهَا ثمانينَ ذراعًا وعرضَهَا خمسينَ ذراعًا. وأنْ يُطْلِي باطنَهَا وظاهرَهَا بالقارِ، وأنْ يجعلَ لها جؤجؤًا أزورَ يشقُّ الماءَ”[1]، ويستجيب نوح لأمر الله تعالى ويصبر على السخرية والاستهزاء: { {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} } [هود: 38]، فكان ثمرة الصنعة الطيبة نجاة أهلها قال تعالى: { {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} } [القمر:13]. ومِن هُنا أصبحتْ السفنُ مِن أكبرِ وسائلِ نقلِ البضائعِ العالميةِ.
الصناعات العسكرية وقد علمها الله تعالى لداود عليه السلام: { {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} } [الأنبياء: 80]، وألانَ له الحديدَ قالَ تعالَى: { {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ . أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} }[سبأ: 10، 11]، فالصناعات العسكرية أحد أسباب القوة التي أمر الله تعالى يأخذها لإرهاب أعداء الأمة، فقالً تعالى:{ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} }.[الأنفال: 60].
صناعةُ الأقمشةِ والملابسِ، وكلُّ ما يتخذُ مِن الصوفِ، قالَ تعالَى: { {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} }.[النحل: 80، 81].
صناعة دبغُ الجلودِ، رأىَ النبي وصحابته شاةً ميتةً وكان هذا المنظرُ خليقًا أنْ يُثيرَ فيه نوازعَ الزهدِ، ولكنهُ أثارَ فيهِ نوازعَ الأملِ، فالتفتَ إلى أصحابهِ وهم يتقزَّزونَ مِن المنظرِ، فقالَ: « «هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ فَقَالَ: «إِنَّمَا حُرِّمَ أكلهَا» »[2]. وهكذا ضربتْ لنا نصوصُ القرآنِ والسنةِ أروعَ الأمثلةِ في الصناعاتِ بشتّى ألوانِهَا وأنواعِهَا .
حياةُ الإيمانِ بلا عملٍ، كحياةِ شجرٍ بلَا ثمرٍ ، والمسلمُ الحقُ يفيضُ بالخير وإن حضره الموتُ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فليغرسها»[5]، يُروىَ أنّ رجلًا مرَّ على أبِي الدرداءِ الصحابِيِّ الزاهدِ رضي اللهُ عنه فوجدَهُ يغرسُ جوزةً، وهو في شيخوختِهِ وهِرَمِهِ، فقال له: أتغرسُ هذه الجوزةَ وأنت شيخٌ كبيرٌ، وهي لا تثمرُ إلا بعدَ كذَا وكذَا عامًا ؟! فقال أبو الدرداءِ: "وما عليَّ أنْ يكونَ لي أجرُهَا ويأكلُ منها غيرِي".
ويفيض عمل المسلم لينفع بإيمانه حتى الحيوانِ، قال رسول الله ﷺ: « «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» »[6] وبذلك يعمُّ الرخاءُ ليشملَ البلادَ والعبادَ والدواب. فأين ثمرةُ إيمانِك، لينتفع بها أبناءُك والناسُ من بعدك؟!
الاسلام يدعونا إلى ضرورة الإمتهان بمهنة؛ لتحفظ للمسلم كرامته وتصون شرفه، فقال: ««أفضلُ الكسبِ، بَيْعٌ مَبْرُورٌ، وعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ»» [3]، ويقولُ ﷺ: « «والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه» »[4].
.ولنا في الأنبياء والصالحين أسوة حسنة، فقد كان لكلِّ واحدٍ مِن الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ جميعًا حرفةً يعيشُ بها يقولُ الإمامُ القرطبيُّ عندَ تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى عن سيدِنَا داود عليه السلامُ: { {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} }: “هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي اتِّخَاذِ الصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ، لَا قَوْلُ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلضُّعَفَاءِ، فَالسَّبَبُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ فَمَنْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ طَعَنَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَسَبَ مَنْ ذَكَرْنَا إِلَى الضَّعْفِ وَعَدَمِ الْمِنَّةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ دَاوُدَ أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، وَكَانَ أَيْضًا يَصْنَعُ الْخُوصَ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَكَانَ آدَمُ حَرَّاثًا، وَنُوحٌ نَجَّارًا وَلُقْمَانُ خَيَّاطًا، وَطَالُوتُ دَبَّاغًا، وَقِيلَ: سَقَّاءً، فَالصَّنْعَةُ يَكُفُّ بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَنِ النَّاسِ، وَيَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ الضَّرَرَ وَالْبَأْسَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ». أ.هـ [7]
إنّ سيدَنَا محمدًا ﷺ خاتمُ الأنبياءِ والمرسلينَ، ضربَ لنا أروعَ الأمثلةِ في العملِ والكسبِ والاحترافِ، فكان يقومُ بمهنةِ أهلهِ، يغسلُ ثوبَهُ، ويحلبُ شاتَهُ، ويرقعُ الثوبَ، ويخصفُ النعلَ، ويعلفُ بعيرَهُ، ويطحنّ مع زوجتِهِ إذا عييتْ ويعجنُ معها، وكان يُقطِّعُ اللحمَ مع أزواجِهِ، ويحملُ بضاعتَهُ من السوقِ، ونحرَ في حجةِ الوداعِ ثلاثًا وستينَ بدنةً بيدهِ، وكان ينقلُ الترابَ يومَ الخندقِ حتى اغبرَّ بطنُهُ، وكان ينقلُ مع صحابتِهِ الحجارة أثناءَ بناءِ المسجدِ، فَعَمَلُ رسولِ اللهِ ﷺ فيه ليرغبَ المسلمينَ في العملِ والبناءِ والتعميرِ، فقامَ المهاجرونَ والأنصارُ وعملُوا بجدٍّ ونشاطٍ حتّى قال أحدُهُم:
لئن قعدْنَا والنبيُّ يعملُ *** لذاك منا العملُ المضللُ
إنّ العملَ والكسبَ والاحترافَ لم يكنْ في حياةِ الأنبياءِ فقط، بل ربَّي النبيُّ ﷺ صحابَتَهُ الكرامَ على الجدِّ والاجتهادِ والعملِ والاحترافِ من أجلِ البناءِ والتعميرِ، فكان لكلِّ واحدٍ منهم مهنةٌ يتكسبُ بها؛ فهذا أبو بكرٍ الصديقُ كان تاجرَ أقمشةٍ، وكان عمرُ بنُ الخطابِ دلّالًا، وعثمانُ بنُ عفانَ وعبدُ الرحمنِ بن ُعوفٍ والبراءُ بنُ عازبٍ وزيدُ بنُ أرقم تجارأَ، كما كان الزبيرُ بنُ العوامِ خياطًا، وسعدُ بنُ أبِى وقاصٍ نبّالًا أي يصنعُ النبالَ، وعمرُو بنُ العاصِ جزارًا، وخبابُ بنُ الأرتِ حدادًا، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ راعيًا، وبلالُ بنُ رباحٍ وعمارُ بنُ ياسرٍ كانا خادمين، وسلمانُ الفارسيِ كان حلّاقًا ومؤبّرًا للنخلِ، وخبيرًا بفنونِ الحربِ، وعليٌّ بنُ أبى طالبٍ عاملًا، وكان يقولّ مفتخرًا:
لنقلُ الصخرِ من قِمَمِ الجبالِ *** أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرَّجَالِ
يَقُولُ النَّاسُ لي في الكسْبِ عارٌ*** فقلتُ العارُ في ذلِّ السؤالِ[8].
ومع أنّهُم دعاةٌ حملُوا مشاعلَ الهدايةِ والنورِ للأمةِ إِلّا أنّهم سَعوا للكسبِ والاحترافِ من أجلِ بناءِ المجتمعِ. لذلك كان سيدُنَا عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه يهتمُّ بالعملِ والترغيبِ فيه فيقول: "مكسبةٌ في دناءةٍ خيرٌ من سؤالِ الناسِ، وإنّ اللهَ خلقَ الأيدَي لتعملَ فإنْ لم تجدْ في الطاعةِ عملًا وجدتْ في المعصيةِ أعمالًا ".وكان يقولُ: ما مِن موضعٍ يأتيني الموتُ فيه أحبُّ إلىَّ من موطنٍ أتسوقُ فيه لأهلِي أبيعُ وأشترِي، وكان إذا رأَي فتًى أعجبَهُ حالهُ، سألَ عنه: هل له مِن حرفةٍ ؟ فإن قِيلَ: لا. سقطَ مِن عينيهِ .وكان إذا مُدِحَ بحضرتِهِ أحدٌ سألَ عنهُ: هل لهُ مِن عملٍ؟ فإن قِيلَ: نَعمْ .قال: إنّه يستحقُ المدحَ. وإنْ قالوا: لا. قال: ليس بذاكَ"، وكان كلَّمَا مرَّ برجلٍ جالسٍ في الشارعِ أمامَ بيتِهِ لا عملَ لهُ أخذَهُ وضربَهُ بالدرةِ وساقَهُ إلى العملِ وهو يقولُ: "إنّ اللهَ يكرَهُ الرجلَ الفارغَ لا في عملِ الدنيا ولا في عملِ الآخرةِ"، ويقولُ: "لا يقعُدُ أحدُكُم عن طلبِ الرزقِ يقولُ: اللهمَّ ارزقنِي ؛ فقد علمتُم أنّ السماءَ لا تمطرُ ذهبًا ولا فضةً".وكان سعيدُ بنُ المسيبِ يتاجرُ بالزيتِ ويقولُ: واللهِ ما للرغبةِ في الدنيا ولكنْ أصونُ نفسِي وأصلُ رحِمِي."، وكان سفيانُ الثوريُّ يمرُّ ببعضِ الناسِ وهم جلوسٌ بالمسجدِ الحرامِ فيقولُ : "ما يُجلسُكُم ؟ قالوا: فما نصنعُ؟! قال: اطلبُوا مِن فضلِ اللهِ، ولا تكونُوا عيالًا علي المسلمينَ. وكان إبراهيمُ بنُ أدهمَ إذا قِيلَ لهُ: كيفَ أنتَ؟ قال: بخيرٍ ما لم يتحملْ مؤنتِي غيرِي[9].
العمل عباده ويُعلى من شأنها قوله تعالى: { {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} } [الجمعة : 10]، فجعل العمل بعد الصلاة وكأنك تنتقل من عبادة موقوفه إلى عبادة مطلقة، وكان سيدُنَا عراكُ بنُ مالكٍ رضي اللهُ عنه إذا صلي الجمعةَ انصرفَ فوقفَ علي بابِ المسجدِ ، فقال: "اللهمَّ إنِّي أجبتُ دعوتَكَ وصليتُ فريضتَكَ ، وانتشرتُ كما أمرتَنِي ، فارزقنِي من فضلِكَ وأنتَ خيرُ الرازقينَ."، وقد ساوى الله تعالى بين الساعي على رزقه ورزق عياله والمجاهد في سبيله، قال تعالى: { {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّ} هِ} [المزمل : 20]، وكأنه نوع من الجهاد، وحينمَا مَرَّ رجلٌ عَلَى نبيِّنَا ﷺ، فَرَأَى أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ جَلَدِهِ ونَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنْ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يَعِفُّها فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّه، وإن كان خرج يسعي علي أهله ففي سبيل الله»» [10].
وقال لسيدِنَا سعد: « «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» »[11] (البخاري) . بل إنّ الإسلامَ يذهبُ إلى أبعد من ذلك فيعدُّ المعاشرةَ الزوجيةِ طاعةً وقربةً وعبادةً، مع أنّ فيها مآربَ أُخرى للزوجينِ، وفي ذلك يقولُ ﷺ : ««وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»» «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ:«أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا»» [12]، ويقولُ الإمامُ النوويُّ: "في هذا دليلٌ على أنّ المباحاتِ تصيرُ طاعاتٍ بالنياتِ الصادقاتِ".
إذن فالإسلامُ يعتبرُ سعىَ الإنسانِ على نفسِهِ وولدِهِ جهادًا وعبادةً يثابُ عليها في الآخرةِ، ولكنْ في غير وقتِ العبادةِ، لأنّ اللهَ وقَّتَ الصلاةَ بوقتٍ فقالَ تعالى: { {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} } (النساء: 103 )، وقال: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} } [الجمعة : 9 – 11]. يقولُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ :" لَمَّا حَجَرَ اللهُ عليهم في التصرفِ بعدَ النداءِ بيعًا وشراءً وأمرَهُم بالاجتماعِ، أذنَ لهم بعدَ الفراغِ في الانتشارِ في الأرضِ والابتغاءِ من فضلِ اللهِ، وقد عاتبَ اللهُ بعضَ الصحابةِ، إذ قدمَ المدينةَ عيرٌ تحملُ تجارةً، فانشغلُوا بها وتركُوا الخطبةَ، ولم يبقَ معه ﷺ إلا اثنا عشرَ رجلًا فأنزلَ اللهُ: { {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} }، وقيلَ: إنّ رجلين كانا في عهدِ النبيِّ ﷺ، أحدهُمَا بيّاعًا فإذا سمعَ النداءَ بالصلاةِ فإن كان الميزانُ بيدهِ طرحَهُ ولا يضعهُ وضعًا، وإن كان بالأرضِ لم يرفعْهُ. وكان الآخرُ قيّنًا يعملُ السيوفَ للتجارةِ، فكان إذا كانتْ مطرقتُهُ على السندانِ أبقاهَا موضوعةً، وإن كان قد رفعَهَا ألقاهَا من وراءِ ظهرِهِ إذا سمعَ الأذانَ، فأنزلَ اللهُ ثناءً عليهما وعلى كلِّ مَن اقتدَى بهما قال تعالى: { {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} } [النور: 37].
وإتقان العمل من الغايات التي عنى الاسلام بها وهو أحد أهم شروط الإعمار والصيانة، فالاستهانة بالاعمال الواجبة من الإفساد في الأرض قال تعالى: { {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} } [الأعراف : 85]،وقد حثَّنَا الإسلام علي إتقانِ العمل ابتغاء مرضاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فرتب للمتقين الثواب العظيم، حيثُ يقولُ سبحانَهُ: { {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} } [الكهف : 30]، وجعل منال محبته في إتقان العمل يقول ﷺ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» ( الطبراني ) وحذرهم من التفريط في أماناتهم، فكل عاملٍ أو موظفٍ أو مسئولٍ ، يُراقِبُ في عمله ربَّهُ عزَّ وجلَّ، حيثُ يقولُ سبحانَهُ : { { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} } [النساء : 1] ، وعندَمَا سُئِلَ نبيُّنَا ﷺ عن الإحسانِ ، قال: « «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»» [13].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ( تفسير ابن كثير).
- (متفق عليه).
- (الترغيب والترهيب[3/4])
- (البخاري [1470])
- (أحمد والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح)
- (البخاري).
- (تفسير القرطبي، والحديثُ عندَ الطبرانيِّ بسندٍ ضعيفٍ
- (راجع فتح الباري لابن حجر)
- (إحياء علوم الدين – الإمام الغزالي).
- (المتجر الرابح [306]).
- (مسلم[1006])،
- ( تفسير القرطبي).
- (مسلم [9]، والبخاري [50]، واللفظ له)