اعتياد الأخذ
وفي يوم من الأيام سأل الفضلُ والدَه قائلاً : " ما لنا نسدي إلى الناس المعروف؛ فلا نرى من السرور في وجوههم عند انصرافهم ببرنا ما نراه عند انصرافهم ببر غيرنا ؟ " .
كان للبرامكة أيام الدولة العباسية الأولى مكانة عَلِيَّة, وقدر وافر من الحشمة, وكانوا ذوي كرم, وبسطة يدٍ, وكثرة تفضل وإنعام. وكان من أكرمهم وأجودهم, وأنداهم يداً - أبو العباس الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك.
وكانت أم الفضل قد أرضعت الخليفة الرشيد؛ فكانا أخوين من الرضاعة, وذلك مما زاد الفضلَ وجاهةً على وجاهة.
وكان الفضل مع - كرمه وكثرة أياديه - ذا فطنةٍ مستيقظةٍ, وألمعيَّةٍ مهذبةٍ, وحسنِ نظر في الأمور.
وفي يوم من الأيام سأل الفضلُ والدَه قائلاً: " ما لنا نسدي إلى الناس المعروف؛ فلا نرى من السرور في وجوههم عند انصرافهم ببرنا ما نراه عند انصرافهم ببر غيرنا ؟ " .
فقال له أبوه يحيى: " إن آمالَ الناسِ فينا أطولُ منها في غيرنا, وإنما يُسرُّ الإنسانُ بما بلَّغه أَمَلَه ".
وهذا السؤال من الفضل والجواب من أبيه يَنِمَّان عن عَرْقٍ راسخ في الكرم, وبصرٍ نافذ في مسارب النفوس، وما تنطوي عليه من الدخائل.
وفيهما تفسير لظاهرة غريبة يتكرر وقوعُها مع مرور الأزمان, ألا وهي استكثارُ الآخذِ القليلَ من المعروف, واستقلالُه الكثيرَ المتتابع منه؛ فالذي تنادي إليه المروءة, وتدعو إليه مكارم الأخلاق أن يستقلَّ الإنسان ما يقدِّمه من المعروف ولو كان كثيراً متتابعاً, وأن يستكثر ويشكر ما يُقَدَّم له وإن كان نزراً قليلاً على نحو قول الحريري:
سِمْ سمةً تُحمد آثارها واشكر لمن أعطى ولو سِمْسِمَةْ
وكما قال سفيان الثوري: " إني لأريد شرب الماء، فيسبقني الرجل إلى الشربة، فَيَسْقِيْنِيْهَا؛ فكأنما دَقَّ ضلعاً من أضلاعي؛ لا أقدر على مكافأته " ([1]).
أما عكس ذلك فليس من المروءة في شيء. والذي يلاحظ في كثير من الأحيان أن فئاماً من الناس يستقلِّون المعروف الكثير المتتابع عليهم بسبب اعتيادهم عليه, وتأميلهم في استمراره وتتابعه؛ فتراهم يفقدون الدهشة عند حصوله, ولا يكادون يشكرون من يسديه.
وفي الوقت نفسه تراهم يفرحون أيما فرحٍ إذا أسدي إليهم معروف من شخص آخر ولو كان قليلاً.
والسبب في ذلك - كما فسره يحيى البرمكي - طول الأمل في عطاء المحسن الذي يتابع إحسانه, وانقطاع الأمل في ابتغاء المعروف مرة أخرى من الآخر.
وهذه حالة غريبة تستدعي الوقوف عندها؛ فترى الشكر قليلاً لله - جل ثناؤه - على نعمه التي لا تحصى من ستر, وعفو, وعافية, ومال, وولد, وما يستتبع ذلك من تفاصيل تلك النعم التي يتقلب فيها الناس صباح مساء.
وترى الشكر قليلاً في حق الوالدين الذين قرن الله شكرهما بشكره خصوصاً إذا كانا من ذوي الفضل والإحسان والمراعاة لأحوال الأولاد.
وترى الشكر - كذلك - قليلاً في حق الأولاد من قبل الوالدين؛ فلا ترى لهما إقبالاً, ولا تقديراً لما يلقيانه من بر الأولاد. وترى تلك الحال تكثر بين المتعامِلين من أصدقاء, ومعارف, ورؤساء, ومرؤوسين. بل يرى بعضهم أن ما يُقَدم له من المعروف الكثير المتتابع إنما هو من قبيل الواجب مع أنه قد لا يكون واجباً, وإنما أوجبه بعض الكرام على أنفسهم. وحتى لو كان واجباً لكان الشكر عليه واجباً.
والحاصل أن اعتياد الأخذ لا ينبغي أن يكون ذريعة لترك الفرح بالمعروف, والشكر لمسديه.
بل ينبغي أن يكون الشكر أوفى وأجل, وأن يكون العذر للمحسن أبسط وأدعى إذا غفل, أو لم يتمكن من القيام بما يوليه من الجميل، لا أن يلام ويُتْرَك شكره، ويُنْسَى سالفُ معروفه.
هذا وإن الأمر لا يقف عند مجرد العطاء المادي المحسوس، بل يتعدى ذلك إلى العطاء والإحسان المعنوي؛ فترى من الناس من لا يرى قدر شيخه وأستاذه الذي يحدب عليه، ويشرق عليه بعطفه وحنانه، ويبذل قصارى جهده في تعليمه، والسير به إلى سواء السبيل.
وفي المقابل تراه يُجِلُّ ذلك البعيد الذي يشيح عنه، ولا يكاد يفيده أدنى فائدة إلا بشق الأنفس. وكذلك تلاحظ نفراً من الناس لا يَقْدُرُ ذلك الإنسان الذي يوليه الاهتمام، ويحسن التواصل معه، والرد عليه بأسرع من رفع اليدين إلى الفم؛ فلا يهمل رسائله، ولا يتوانى بالرد عليه.
وتراه - في الوقت نفسه - يُكْبِرُ ذلك الذي يصُدُّ عنه، ولا يبالي به، ولا ينبعث للرد عليه إلا بشق الأنفس.
ومن جميل ما يذكر في هذا الشأن ما كان من أمر العلامة اللغوي الكبير أبي الفتح ابن جني الذي لزم شيخه أبا علي الفارسي مدة أربعين سنة حتى مات أبو علي، مع أن ابن جني قد فاق شيخه في التصنيف، والتفنن في العلوم.
وقد أرانا العيان مثلاً علياً في ذلك الشأن؛ فأعرف من يرعى حقوق مشايخه الذين علَّموه كرعايته لوالديه، بل كلما تقادم به العهد زاد في البر وحفظ الود مع أنه قد فاقهم بمراحل. وهذه نفوس كريمة تخللت منها المروءة مسلك الروح، وذُلِّلَت لها سبل المكارم تذليلاً.
محافظة الزلفي 29- 10 - 1443هـ
[1]_ وتنسب _كذلك_ لمنصور بن المعتمر برواية سفيان عنه.
- التصنيف:
- المصدر: