الثورة الصناعية والعلمية
إن الدعاية تشكل عدوانًا دائمًا على الإنسان الذي تخضعه لقصف من الأنباء الكاذبة، وتثير فيه شهوات وهميَّة غير محدودة...
إن الثورة الصناعية والعلمية التي انطلقت أساسًا من الغرب قد فتحت الأعين على حاجتين أساسيتين: الأولى تمثلت بالحاجة إلى المواد الأولية الأساسية لحركة التصنيع التي نمت لاحقًا بوتيرة عالية، والثانية تمثلت بالحاجة إلى الأسواق الاستهلاكية لتصريف المنتجات.
ووراء هاتين الحاجتين وقف تغييران جوهريَّان أصابا المحتوى الداخلي للإنسان، وقد تمثَّل هذان التغييران في اعتبار السعادة هي الهدف من الحياة وتحقيق أقصى متعة، والثاني في كون الأنانية والسعي لتحقيق المصلحة الشخصية والجشع تفضي إلى الانسجام والسلام.
وللأسف فإن السعادة في نظر "هوبز" هي التقدُّم المطرد دائمًا من شهوة لشهوة، بل إن الأمر يصل إلى حد ما عند "لاميتري" إلى حد تحبيذ تعاطي المخدرات؛ حيث هي تعطي وهمًا بالسعادة، وهناك "دي ساد" الذي يعتبر إشباع دوافع القسوة أمرًا مشروعًا.
هذا التحول في المحتوى الداخلي للإنسان مُهِم جدًّا وتزداد أهميته عندما تقدم لنا اللذة بجذرها المادي كإجابة مقنعة لمعضلة الوجود الإنساني.
إن مذهَبَي اللذة والأنانية المفرطة شكَّلا المبدأين الرئيسين اللذين صدرت عنهما إعادة تشكيل وبرمجة المحتوى الداخلي للإنسان وسلوكه وَفْق قوالب مادية خالصة.
ومن ثَمَّ فلا عجب أن انساق مجموعة كبيرة من الناس لاستهلاك المخدرات، والسرقة وجرائم مختلفة الأشكال والآثار، زعما بأنها تحقق قدرًا من اللذة أو المنفعة أو السعادة.
لقد باتت الصحف ومحطات التلفزيون والقنوات الفضائية في مختلف أنحاء العالم هذه الأيام مشبعة بالتقارير عن جرائم العنف والمخدرات، وازدياد نشاطات المافيا العالمية.
والإحصائيَّات المذهلة عن ذلك كافية لبث الذعر، فالجريمة في الواقع قضية أكثر غموضًا وأعقد تركيبًا مما يبدو، ومن عناوين الصحف المنذرة بالخطر.
ومما يجدر ملاحظته أن معظم الناس يقرنون بين الجريمة والخوف، والجريمة والعنف، والجريمة والفساد، والجريمة والتنمية، والجريمة والفقر، والجريمة والبطالة.
وقد جرت العادة أن تؤخذ المعدَّلات العالية في الجرائم كإشارة خطر تنبئ أن انهيارًا اجتماعيًّا وشيكًا يربض خلف المنعطف.
فلا عجب أن القلق العام المتعلق بالجريمة يتنامى.
أما استهلاك المخدرات، فهو ينتشر بشكل سريع في العالم، ويزداد الاستهلاك عادة مع زيادة العرض ورخص السعر.
وللأسف فإن متعاطي المخدرات يهرب إليها كنوع من التمرُّد أو الهروب من الواقع، أو للتعبير عن الاستسلام، والإقرار بالهزيمة النفسية، وأحيانًا لمجرد اقتناص وَهْمِ النشوة والسعادة.
والأخطر من ذلك أن كثيرًا من الناس ينظرون الآن للمخدرات كوسيلة ترفيه، وعند آخرين لا يزال استخدام المخدرات مجرد محاولة للتعويض عن السأم.
والمخدرات عمومًا ذات علاقة بعدة مشكلات اجتماعية؛ كالقلق، والتفكك الأُسَري، والجريمة والفساد، والمخدرات هذه الأيام مصدر قلق كبير للجميع؛ لأن أضرارها وآثارها فادحة.
وأشد آثار تجارة المخدرات أذى على المجتمع هو تصعيد الجريمة؛ إذ تعتبر المتاجرة بالمخدرات هذه الأيام أحد أكبر مجالات كسب المال في العالم، والمشكلة أن صناعة المخدرات الآن بالغة التطور والتعقيد، فهي تستخدم وعلى نطاق واسع أنظمة اتصال بمساعدة التقنية والحواسب؛ لذا أصبحت ظاهرة انتشار المخدرات ظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية، ظاهرة تهدد الاقتصاد على المستوى الفردي والمجتمعي والإقليمي والعالمي.
إن ما يُسمَّى سياسة النمو هي سياسة غايتها تشغيل الآلة، حتى ولو كانت آلة بلا فائدة أو ضارة أو مميتة، فكل ما هو تقني ممكن هو ضروري ومرغوب فيه، على حد زعم "روجيه جارودي".
لقد أوجدت السوق الاقتصادية الحرة الغاب الحيواني من جديد، وفي هذا الغاب يفترس الأقوياء الضعفاء، فالمنشآت الكبرى لسحق الصغرى، والعمالقة الضواري في المجتمعات المتعددة الجنسيات يستولون على العالم، ويفلتون من كل رقابة من الشعوب.
إن الدعاية تشكل عدوانًا دائمًا على الإنسان الذي تخضعه لقصف من الأنباء الكاذبة، وتثير فيه شهوات وهميَّة غير محدودة، فليست القضية هي قضية الماضي فحسب، قضية مطلع القرن التاسع عشر حين رسم "كارل ماركس" لوحة رقصات رأس المال الصاخبة ساحبًا تحت دبابة النمو الأولاد والنساء كيد عاملة رخيصة.
بل وقضية الحاضر أيضًا، قضية القرن الحادي والعشرين؛ حيث المجتمع الجرائمي المنظَّم، إجرام بياقة بيضاء، عنف مجاني، تشرد، عمالة أطفال، بزنس الجنس، إن المخدرات خطر، والقتل جريمة، والسرقة انحراف، والبغاء والجنس وعمالة الأطفال والتشرد أشكال عديدة من واقعنا الاجتماعي المريض.
رغم ذلك فإن أخطر جريمة وأعنف انحراف يتمثل في انهيار الأخلاق، وضياع القيم، والتفلُّت من التراث الأصيل والتنكر للحضارة الرائدة.
ولا عجب إذًا أن تضيع الأمة المنهارة أخلاقيًّا، الخاوية قِيَمًا وعقيدة، والفارغة فِكرًا أو ثقافة، والفقيرة حضارة وتقدُّمًا، فتلهث كالكلاب تبحث عن حضارة تلتصق بها بعد أن قضت على أغلى ما تتمسك به الأمم عالية الهِمم.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن تتبع الآيات القرآنية يظهر التأكيد على وجود علاقة موضوعية بين وقوع الظلم والفساد الاقتصادي والاجتماعي في أيِّ مجتمع، وبين هلاك ودمار واضمحلال الأمم عبر مسيرتها التاريخية؛ يقول - تعالى -: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
تؤكد هذه الآية أن تصرفات وسلوكيات بعض الناس التي تتحكم فيهم النظرة المادية النفعية تؤدي إلى تفشِّي الفساد والظلم، وانتشار الفقر والبؤس، وإهدار الأموال والطاقات؛ مما يعني انهيار وتدهور الكيان الاقتصادي، وتفكك البنية الاجتماعية والاقتصادية، وانتشار الفساد الخلقي، والانحطاط الروحي، وتدمير وهلاك المجتمع.
وفي آيات قرآنية أخرى إشارات مضيئة لعلاقات وروابط موضوعية شرطية بين مستوى ودرجة استقامة الأمة؛ من حيث المعتقدات والقيم والأخلاق والتراث، وبين درجة وفرة الخيرات وازدهار ورخاء الأمة.
يقول - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
ويقول - سبحانه -: {لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66].
ويقول - جل شأنه -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إن هذه الآيات تؤكد على معانٍ ومضامين حقيقية تعتبر ركائز نمو وازدهار أو تدهور واضمحلال أي مجتمع، وذلك بتوفير المقدمات، ومعرفة العلل والأسباب، والتمسك بالأُسس والركائز المنبثقة من المحتوى الداخلي للإنسان والأمة.
فالآيات القرآنية تتحدث عن الحياة والكون والإنسان مؤكدة على وجود علاقات ارتباطية بين الحوادث المختلفة وَفْق قانون وسنة السبب والمسبب، والعلة والمعلول.
ختامًا أقول:
إننا مدعوون أفرادًا وجماعات، ومؤسسات حكومية، وخاصة إلى اقتسام المسؤوليات كل من زاويته الخاصة، وبقدراته المتاحة، وإلى توزيع الأدوار؛ بحيث نضمن النجاح والتكامل والأمن والاطمئنان، فلا جرائم ولا سرقات ولا مخدرات، بل قِيَم أخلاقية متينة، وأخلاقيات سامية، وتفعيل اقتصادي واجتماعي وسياسي شريف مستند ومستمد من عقيدتنا الصافية، وتراثنا العريق، وحضارتنا الأصيلة.
____________________________________________
الكاتب: د. زيد بن محمد الرماني
- التصنيف: