الأذكار المئوية: فضائل ومعاني

أحمد عبد المجيد مكي

« يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب، في اليوم إليه مائة مرة»

  • التصنيفات: الأذكار -

دكتور : أحمد عبد المجيد مكي

ذِكْر الله عز وجل شأنه عظيم، وفضله كبير، عظيم النفع، جليل الفائدة، يسير سهل على من يسره الله تعالى عليه، يُطيقه الصغير والكبير، ويؤدَّى في كلِّ زمان ومكان.
 وقد ورد في الأذكار من الكتاب والسنة عمومًا وخصوصًا ما هو معروف، لكن ورد في خصوص- التهليل (أي: قول لا إله إلا الله ) والتسبيحِ والتحميد والاستغفار والتوبة- من النصوص أكثرُ مما ورد في غيرها من الأذكار، وذلك مشعر بمزيد شرفها، وعظيم أجْرِها وفضلها، وسيقتصر حديثنا هنا عن بعض الأذكار المئوية الصحيحة، وقبل أن نشرع في الحديث أود الإشارة إلي أمرين مهمين:

الأمر الأول: قال بعض العلماء: هذه الفضائل وما شاكلها إنما هى لأهل الشرف فى الدين والكمال والطهارة من الجرائم العظام، ولا يظن أن من فعل هذا وأصر على ما شاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلحق بالسابقين المطهرين، وينال منزلتهم فى ذلك بحكاية أحرف ليس معها تقى ولا إخلاص، ولا عمل، ما أظلمه لنفسه من يتأول دين الله على هواه([1]).

الأمر الثاني: المندوبات إنما تعتبر بعد أداء المفروضات، وبالنسبة إلى ذلك جاء فيها من الترغيب ما جاء،... قال ابن أبي جمرة في شرح البخاري: والإجماع منعقد على أن لا شيء من أفعال البر أفضل من الفرائض ، فيخصص عموم اللفظ، ويبقى هذا خاصاً بأنه أفضل المندوبات، ولم يأخذ القوم في هذه المندوبات حتى أكملوا فروضهم([2]).

الحديث الأول :

حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في كل يوم، مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان، يومه ذلك، حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك» ([3]).

   معنى (وكانت له حرزا من الشيطان...): أي يكون في حصن منيع من الشيطان مدة بقاء النهار، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به من الأذكار المأثورة إلا رجل زاد على المائة من التهليل فكلما زاد منه زاد الثواب.

- فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور فى الحديث على المائة، ويكون له ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التى نهى عن اعتدائها، ومجاوزة أعدادها، وأن زيادتها لا فضل فيها، أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة ([4]).

- الظاهر أن الأجر المذكور في الحديث يحصل لمن قال هذا التهليل مائة مرة في يومه، سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس، أو بعضها أول النهار وبعضها آخره، لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار، ليكون حرزا له في جميع نهاره، وكذا في أول الليل ليكون له حرزا في جميع ليله ([5]).

 

الحديث الثاني:

  حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من قال سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه، وإن كانت مِثْلَ زَبَدِ البَحرِ» ([6]).

و التسبيح معناه: تنزيه الله عما يليق به سبحانه من الشريك والولد والصاحبة والنقائص مطلقا.

   ومعنى : سبحان الله وبحمده ، أي أسبّحه حامدًا له، وهو جمع بين التخلية والتحلية، خلاه الله تعالى عن كل قبيح، ثم حلاه تعالى بكل ثناء صحيح.

    ومعنى (حُطَّت خطاياه): وضعتها عنه، كأنها كانت على ظهره فحطها هذا القول عنه، والمقصود: محيت صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله سبحانه ، أمَّا الذنوب التي تتعلق بحقوق الخلق؛ فإنَّه لا بدَّ فيها من إرجاع الحقوق إلى أصحابها.

 ومعنى: (زَبَدِ البحر): أي: كالرغوة التي تعلو سطح البحر، وهو كناية عن المبالغة في الكثرة.

ويلفت الإمام ابن القيم نظرنا إلي شيء مهم جدا ، فيقول: العبد يعرف أنّ المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته، ولا بدَّ، ولكن تغالطه نفسه بالاتكال على عفو الله ومغفرته تارة، وبالتسويف بالتوبة تارة، وبالاستغفار باللسان تارة، وبفعل المندوبات تارة، ...

وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل، ثم قال: "أستغفر الله" زال أثر الذنب، وراح هذا بهذا!... وهذا الضرب من الناس قد تعلّق بنصوص الرَّجاء، واتّكل عليها، وتعلق بها بكلتا يديه. وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء.

وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب، كقول بعضهم:

وكَثِّرْ ما استطعتَ من الخطايا ... إذا كان القدومُ على كريمِ([7]).

الحديث الثالث :

عن ابن عمر قال: «إنْ كنَّا لنعُدُّ لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلم - في المجلسِ الواحِدِ مئة مرةِ "رَبِّ اغفِر لي وتُب علىَّ، إنَك أنتَ التَّوابُ الرحيم» ([8]).

   وعن الأَغَرِّ المزنِيِّ، أنه سمع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: « يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب، في اليوم إليه مائة مرة» ([9]).

    أي: ارجعوا إليه بامتثال ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه، ومما أمركم به التوبة، فهي واجبة من كل ذنب ولو صغيرة.

    ولا شك ان التوبة أهم قواعد الإسلام وهي أول مقامات سالكي طريق الآخرة، قال العلامة المناوي (المتوفى: 1031هـ): أمرهم -مع طاعتهم- بالتوبة، لئلا يعجبوا بطاعتهم، فيصير عُجْبهم حُجُبهم. فساوى فيه الطائع العاصي، ووصفهم بالإيمان لئلا تتمزق قلوبهم من خوف الهجران، فتوبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من غفلة القلوب، وتوبة خواص الخواص مما سوى المحبوب، فذنب كل عبد بحسبه ... ولذلك في كل مقام توبة حتى ترفع التوبة ، ... وذكر المئة هنا -والسبعين في رواية أخرى- عبارة عن الكثرة، لا للتحديد، ولا للغاية، فالمراد هنا: أتوب إليه دائما أبدا. وتوبته ليست عن ذنب، بل لكونه دائما في الترقي، فكل مرتبة ارتقى إليها فما دونها ذنب يستغفر منه([10]).

الحديث الرابع:

عن الأغرّ المزنيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّهُ لَيُغانُ على قَلْبِي، وإني لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليوم مائة مَرَّةٍ» ([11]).

ومعنى: يغان: أي يُغطَّى ويُغشى على قلبي، وأصله من الغين وهو الغطاء، وكل حائل بينك وبين شىء، فهو غين، ولذلك قيل للغيم: غين.

أي : ليطبق إطباق الغين وهو الغيم.

قال أهل العلم : ليس المراد به ظاهره، ولذا كثر الاختلاف فيه على آراء كثيرة منها :

- أن المراد به فترات وغفلات عن الذكر الذي شأنه الدوام عليه، فإذا فتر وغفل عن شيء منها في بعض الأوقات عَدّهُ ذَنباً على نفسه، ففزع إلى الاستغفار.

- ومنها أنه هَمُّه -صلى الله عليه وسلم- بسبب أمته- وما اطلع عليه من أحوالهم بعده- فيستغفر لهم.

- ومنها أنه السكينة التي تغشى قلبه قال تعالى: { {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} }، فالاستغفار شكر لها.   

 -  ومنها أنه من المتشابه الذي لا يخاض في معناه، وقد سئل عنه الأصمعي فقال: قلب من هذا؟ فقيل له: قلب النبي صلى الله عليه وسلم. فامتنع من الكلام عليه تأدباً معه -صلى الله عليه وسلم- وإجلالاً لقلبه الذي جعله الله محل نظره، ومَنْزل وحْيِه،...

 فالغين لا نقص فيه بوجه، وإنما هو نور ومقام انتقل عنه إلى نور ومقام أعلى وأجمل، فتأمله فإنه أولى ما قيل في هذا المقام([12]).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: « والله إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأتُوبُ إلَيهِ فِي اليَوْمِ أكثَرَ مِن سبعين مرة» ([13]).

    وفي هذا تحريض للأمة على التوبة والاستغفار، فإنه مع كونه معصوماً وكونه خير الخلائق يستغفر ويتوب سبعين مرة؛ واستغفاره ليس من الذنب ، بل من اعتقاده أن نفسه قاصرة في العبودية عما يليق بحضرة ذي الجلال والإكرام([14]).

أسأل الله  أن يُعيننا وإياكم على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته. وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.

 

([1]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 134).

([2]) الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (1/ 210).

([3]) أخرجه البخاري (3293) و (6403) ، ومسلم (2691).

([4]) شرح النووي على مسلم (17/ 17).

([5]) شرح النووي على مسلم (17/ 17)، فتح الباري لابن حجر (11/ 206).

([6]) البخاري (6405) ، ومسلم (2691).

([7]) الداء والدواء (1/ 36).

([8]) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (4726)، أبو داود (1516)، والترمذي (3733).

([9]) رواه مسلم (2702).

([10]) فيض القدير (3/ 274).

([11]) أخرجه مسلم (2702).

([12]) الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (7/ 276).

([13]) أخرجه البخاري (6307).

([14]) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 95).