إسرائيل والأزمة الأوكرانية علاقة ملتبسة
أمير سعيد
إسرائيل يتنازعها جاذبان متعارضان أحدهما تجاه روسيا، والآخر تجاه أوكرانيا؛ فهي لا تريد إغضاب روسيا لأسباب عديدة
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
قال: «سنكون مثل إسرائيل كبيرة».
أول ما خطر ببال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حينما أراد أن يتحدث عن شكل دولته بعد الحرب، كان الكيان الذي ينتمي إليه عقائدياً، الذي يجسد في نظره نموذجاً متميزاً في استقرار الدولة وقدرتها على البقاء في وجه محيط لا يقبلها (شعبياً على الأقل): «أعتقد أن كل أفراد شعبنا سيكونون جيشنا العظيم. لا يمكننا التحدث عن (سويسرا المستقبل) ربما تكون دولتنا قادرة على أن تكون هكذا بعد مدة طويلة. لكننا بالتأكيد سنصبح (إسرائيل كبيرة) بوجهها الخاص».
وعلى نحو سافِر أضاف زيلينسكي: «لن نتفاجأ بأن يكون لدينا ممثلون عن القوات المسلحة أو الحرس الوطني في جميع المؤسسات والمتاجر والسينمات وسيكون هناك أشخاص مسلحون. وأنا واثق من أن موضوعنا الأمني سيكون رقم واحد في السنوات العشر القادمة».
لا تعد هذه التصريحات مجرد (ثرثرة زيلينسكية) معتادة، بقدر ما يمكن عدُّها إشارةً إلى إستراتيجية غربية لصنع (إسرائيل) أخرى في خاصرة الروس، ليس بالضرورة أن تكون يهودية وإنما المقصود - على ما يبدو - أن تحاكيها وظيفياً؛ فـ (إسرائيل) التي زُرعت في قلب العالم الإسلامي وبالأخص في منتصف جغرافية مادة الإسلام (العرب)، أُسندت إليها مهمة الحؤول دون إعادة ترميم العالم الإسلامي، أو بنائه على أسس عقائدية وحضارية أصيلة.
الهدف عينه ربما يناط بأوكرانيا أن تحققه على تخوم روسيا؛ فدولة عسكرية جاهزة للحرب دائماً هو أفضل ما يمكن أن يقدمه زيلينسكي للغرب أو بالأحرى هو أفضل ما يسعى إليه الغرب بدعمه لأوكرانيا على هذا النحو الموجَّه لهذا الغرض تحديداً؛ فكيف إن كان لهذه الوظيفة جذور تاريخية ثمة من يريد إحياءها؟
مملكة الخزر البائدة، موطن اليهود المهجرين من أوروبا، حول بحر قزوين والبحر الأسود، يعاد النظر في إحيائها لتكون بديلاً من (إسرائيل) أو رديفاً لها، فقد مثَّلت حائط صدٍّ أمام فتوحات المسلمين إبَّان حكم الدولة العباسية، وحائط صدٍّ أمام البيزنطيين كذلك في أوج تمددها في القرن الرابع الهجري. ويمكنها أن تقوم بدور مشابه، على أسس يهودية أيضاً كما سبق.
القدس السماوية الجديدة، حائط المبكى الكريستالي البديل، الذي تم الاحتفال بتشييده في أوكرانيا، على يد الحاخام يعقوب بليش في بابي يار بالعاصمة الأوكرانية غير بعيد عن نصب الهولوكوست في المنطقة ذاتها، شاهدٌ آخر على الاهتمام المتصاعد ببعث الخزرية، التي لا ترغب موسكو في بعثها على حدودها.
وإذا كان الغرب وزيلينسكي يرغبان في رؤية (إسرائيل كبيرة) في أوكرانيا؛ فإنه من غير المعروف تحديداً إذا كانت تلك الرغبة تلتقي مع إرادة الصهاينة في فلسطين أم لا.
المعطيات حول الأزمة الأوكرانية وموقف (إسرائيل) منها شحيحة وملتبسة في آن معاً، ففي البداية اتخذت (إسرائيل) موقفاً حيادياً نوعاً مَّا من الغزو الروسي؛ فقد أدانت الغزو الروسي، لكنها امتنعت من المشاركة في قرار أممي يدين روسيا أول الأمر، فكان موقفها على لسان وزير خارجيتها يائير لبيد في فبراير الماضي هو أن الغزو «انتهاك خطير للنظام الدولي، وأن إسرائيل تُدين الهجوم، وهي مستعدة لتقديم المساعدة الإنسانية لمواطني أوكرانيا» ودعا إلى «العودة إلى طاولة المفاوضات، بوساطة القوى الدولية لتسوية الخلافات سلمياً» وانتقت بعض العقوبات الهامشية لتنفيذها، وامتنعت من الانضمام إلى نظام العقوبات الغربي، حتى على الصعيد الديني؛ فإن تل أبيب لم تعبأ كثيراً باللاجئين اليهود، وهي وإن كانت أعطتهم أولوية، بل لم تسمح لغيرهم؛ إلا أنها لم تُعِرهم اهتماماً كبيراً، ولم تهتمَّ كثيراً بتشجيع عشرات الآلاف من اليهود الأوكرانيين على الهجرة إلى أراضي فلسطين المحتلة.
(إسرائيل) يتنازعها جاذبان متعارضان أحدهما تجاه روسيا، والآخر تجاه أوكرانيا؛ فهي لا تريد إغضاب روسيا لأسباب عديدة، منها:
• أن قسماً من كبار ساستها ونخبتها ذوو جذور روسية، وكثير من رجال الأعمال لديها هم من مزدوجي الجنسية الروسية/ (الإسرائيلية)، وبعض العقوبات الغربية تؤثر على الاقتصاد (الإسرائيلي) بشكل غير مباشر بسبب انتماء رجال أعمال (إسرائيليين) إلى طبقة الأوليغارشية الروسية (مزدوجي الجنسية والاستثمارات في البلدين، الشركات «الإسرائيلية» الكبرى في روسيا وفلسطين)، وأن الكثير من مغتصبي فلسطين هم منحدرون من جذور روسية، ولديهم تعاطف مع دولتهم الأم.
• أن الاقتصاد (الإسرائيلي) قد يتأثر في حال انحازت تل أبيب كلية إلى جانب كييف؛ إذ يتجاوز حجم التبادل التجاري بين روسيا و (إسرائيل) 3.5 مليار دولار، وهو رقم جيد لا ترغب (إسرائيل) في تعرضه لهزة.
• أن لدى (إسرائيل) مصالحها المشتركة مع روسيا في المنطقة، لا سيما في الترتيبات الأمنية في سوريا التي تتحكم روسيا بقراراتها، وقد لوَّحت روسيا في بادئ الحرب بأنها لا تعترف بـ (سيادة إسرائيل) على الجولان، نكاية في (إسرائيل) التي تحدثت عن ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية.
• أن (إسرائيل) لا ترغب في إغضاب الصينيين بالتبعية، بالوقوف في موقع متقدم في التحالف الغربي المساند لأوكرانيا، ولا هي راغبة في إغضاب إيران أيضاً، الحليفة لروسيا، التي تنسق معها (إسرائيل) هي أيضاً في المنطقة.
كما أن (إسرائيل) لا تريد أن تقف في صفٍّ مناوئ للغرب، لا سيما الولايات المتحدة في واحدة من معاركها المهمة التي تخوضها عبر أوكرانيا، وتتوقع منها واشنطن تغيير الخريطة الجيوستراتيجية في أوروبا والشرق الأوسط.
ومعلوم أن مصالح (إسرائيل) مع الغرب أكثر أهمية من مصالحها مع روسيا، ويكفي أنها تقدم الآن نفسها بديلاً مفترضاً لروسيا التي تزود أوروبا بالغاز، الذي تحاول أوروبا الاستعاضة عنه بغاز شرق البحر المتوسط، الذي سيوفر لأوروبا كامل احتياجاتها منه في حال تعاونت كلٌّ من تركيا ومصر و (إسرائيل) واليونان أو بعض تلك الدول التي يجمعها (منتدى النفط والغاز) الذي مركزه القاهرة، على تصديره عبر خطوط أنابيب إلى أوروبا.
وتقع (إسرائيل) تحت ضغط داخلي من (الإسرائيليين) المنحدرين من أصول أوكرانية، وهؤلاء يدفعون تجاه موقف أكثر صرامة من الغزو الروسي لأوكرانيا، يشاركهم في ذلك قِطاعات من التيارات الليبرالية، لكن معظم (الإسرائيليين) يؤيدون سياسة حيادية توازن بين مصالح (إسرائيل) مع روسيا ومصالحها مع الغرب.
ويُعدُّ يهود الشرق الأوروبي والروسي هم الأكثر تأثيراً في الأحزاب (الإسرائيلية)، ويُخشَى من أن مَيْلاً تجاه الروس أو الأوكران قد يحدِث شرخاً في البناء السياسي الصهيوني، كما أنه يؤثر على الهجرات اليهودية من تلك الدول.
ويوقع الخطاب الذي انتهجه الرئيس الأوكراني اليهودي الأشكنازي حيال الغزو الروسي، وكذلك ربطه ما بين أوكرانيا و (إسرائيل) من حيث المصير والتحديات، داعياً إياها إلى اتخاذ موقف يتسق مع هذا التوافق بين دولته و (إسرائيل)، يوقع الساسة (الإسرائيليين) في حرج، حاولوا الخروج منه بالسعي نحو إجراء وساطة كانوا يدركون مسبقاً صعوبة تحققها، لكنهم أقدموا عليها من باب «غسيل السمعة» التي تبرر لهم اتخاذهم موقفاً متأرجحاً في حالة وَصَمَها الغرب بالغزو، وأدانها (العالم الحر) الذي تزعم (إسرائيل) انتماءها إليه!
لكن عملية (غسيل السمعة) هذه لم تفلح (إسرائيل) في تنفيذها بعد زهدها الواضح في استضافة لاجئين أوكرانيين، على غير السياسة التي انتهجتها الدول الأوروبية التي رحبت باللاجئين وآوتهم على نحو مميز، فأخفقت (إسرائيل) في اختبار (الإنسانية) هذا، ثم فشلت حتى في الأسلوب الانتقائي الذي اتخذته حيال المهاجرين الأوكرانيين من اليهود تحديداً، الذين كان يُتوقَّع أن يكونوا موضع ترحيب من الكيان الصهيوني؛ إلا أن ما حدث كان على النقيض، فقد فرضت تل أبيب شروطاً صعبة لقبول اليهود القادمين من أوكرانيا، منها ضرورة وجود (كفيل إسرائيلي) يتعهد بدفع 10 آلاف دولار، علاوة على أموال تجبى من اللاجئ نفسه، وهو ما أدى إلى استنكار أوكرانيا لهذا السلوك، إلى الحد الذي أبكى السفير الأوكراني في تل أبيب إيفغين كورنيتشوك أثناء مؤتمر صحفي شكا فيه من هذا السلوك (الإسرائيلي) الانتهازي المشين، مثلما أدانت أوكرانيا من قبل عمليات غسيل الأموال التي قام بها ساسة مزدوجو الجنسية الروسية و (الإسرائيلية) في فلسطين المحتلة.
كان التصور التقليدي يُدخل (إسرائيل) ضمن الحلف الغربي في الأزمة الأوكرانية، وأتى (منتدى الغاز والنفط) في شرق المتوسط ليدفعها أكثر ضمن هذا الحلف، لكنها أجرت حسابات أخرى، لم تُرِد معها أن تخسر علاقة قوية مع الروس ربما بينها الأمن في سوريا، وربما غير ذلك. لكن يبقى التساؤل جديراً بالاهتمام والدراسة، حول المستقبل (الإسرائيلي)، ودولة الخزر الكامنة في الشمال، ودور (إسرائيل) الوظيفي: هل من بديل يلوح في أفق المستقبل تخشاه (إسرائيل) وبات يمثل هاجسها الأكبر؟!