وسطية أهل السنة مع بعض أهل التأويل
أهل السنَّة والجماعة منصفون في الحكم على الآخرين، لا يرفعون الناس فوق ما يستحقون، ولا ينقصون قدرهم، ومن الإنصاف بيان خطأ المخطئ من أهل العلم والفضل، والتأول له، والترحم عليه...
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - أخلاق إسلامية -
ابن حجر مع جلالة قدره في علم الحديث إلا أنه كثيرًا ما يقرر عقيدة الأشاعرة، ولا سيما في "فتح الباري": «وإليك أيها القارئ الكريم غيضًا من فيض من تأويلات ابن حجر لصفات الرب جل في علاه مقررًا عقيدة الأشاعرة متجنبًا لمنهج السلف في إثبات الأسماء والصفات على حقيقتها على وجه يليق بذاته سبحانه بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل».
1– أوَّلَ الاستحياءَ: قال: في الفتح (1/ 189): «قوله: (فاستحيا الله منه) أي: رحمه ولم يعاقبه.
2– أوَّلَ اليد بالقدرة: قال: في الفتح (1/ 419): «والمراد باليد هنا القدرة».
3– تأويل العجب: قال: في الفتح (6/ 168): «وقد تقدم توجيه العجب في حق الله في أوائل الجهاد وأن معناه الرضا ونحو ذلك … ».
4- تأويله للغضب في موضع آخر: قال: في الفتح (7/ 179): «والمراد بغضب الله إرادة إيصال العقاب … ».
5– نفي الجوارح والأعضاء نفيًا مطلقًا درءًا للتجسيم.
قال في (8/ 532): «لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء».
6– تأويل الفرح قال في (11/ 109): «وقال ابن أبي جمرة: كنَّى عن إحسان الله للتائب وتجاوزه عنه بالفرح؛ لأن عادة الملك إذا فرح بفعل أحد أن يبالغ في الإحسان إليه … » اهـ.
7– تأويل النزول قال في (11/ 133): «وقال الكرماني: …: النزول محال على الله؛ لأن حقيقته الحركة من جهة العلو إلى السفل، وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه عن ذلك، فليُتأول ذلك بأن المراد نزول ملك الرحمة ونحوه، أو يفوض مع اعتقاد التنزيه … ». اهـ.
8– تأويل الضحك والأخذ بالمجاز، قال في (11/ 452): «قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا … » اهـ.
9– تأويل الساق: قال في (11/ 459): «ومعنى كشف الساق زوال الخوف والهول … ». اهـ.
10– تأويل نظر الله، قال الحافظ في (13/ 215): «ومعنى لا ينظر إليهم: يعرض عنهم. ومعنى نظره لعباده: رحمته لهم ولطفه بهم … » اهـ.
موقف علمائنا من الحافظين، ابن حجر، والنووي -رحمهما الله-:
أهل السنَّة والجماعة منصفون في الحكم على الآخرين، لا يرفعون الناس فوق ما يستحقون، ولا ينقصون قدرهم، ومن الإنصاف بيان خطأ المخطئ من أهل العلم والفضل، والتأول له، والترحم عليه، كما أن من الإنصاف التحذير من خطئه؛ لئلا يغتر أحد بمكانته فيقلده فيما أخطأ فيه، وأهل السنَّة لا يتوانون عن الحكم على المخالف المتعمد للسنَّة بأنه مبتدع ضال، وقد وُجد في زماننا هذا من نال من ابن حجر والنووي، فحكم عليهما بأنهما مبتدعان ضالان!، وبلغت السفاهة ببعضهم أن قال بوجوب إحراق كتابيهما «فتح الباري» و «شرح مسلم»!.
وليس معنى هذا أنهما لم يخطئا في مسائل من الشرع، وبخاصة في باب صفات الله تعالى، وقد علَّق عليها علماؤنا، وبينوها، وردوا عليهما، مع الترحم عليهما، والثناء بما يستحقانه، والدعاء لهما، والوصية بالاستفادة من كتبهما، وهذا هو الإنصاف الذي عُرف به أهل السنَّة والجماعة، بخلاف من بدَّعهما، وضلَّلهما، وقال بإحراق كتبهما، وبخلاف من استدل بكلامهما كأنه شرع منزَّل، وجعل ما يعتقدانه هو الحق الذي لا ريب فيه، وسنذكر ما يتيسر من كلام علمائنا ليقف المسلم على الإنصاف، والعلم، والحكم بالعدل على هذين الحافظين.
1– سُئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية: ما هو موقفنا من العلماء الذين أوَّلوا الصفات، مثل ابن حجر، والنووي، وابن الجوزي، وغيرهم، هل نعتبرهم من أئمة أهل السنَّة والجماعة، أم ماذا؟ وهل نقول: إنهم أخطأوا في تأويلاتهم، أم كانوا ضالين في ذلك؟
فأجابوا: «موقفنا من أبي بكر الباقلاني، والبيهقي، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي زكريا النووي، وابن حجر، وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى، أو فوَّضوا في أصل معناها: أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة -رضي الله عنهم- وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخير، وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله، سواء تأولوا الصفات الذاتية، وصفات الأفعال، أم بعض ذلك، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم» انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز. الشيخ عبد الرزاق عفيفي. الشيخ عبد الله بن قعود، «فتاوى اللجنة الدائمة» (3/ 241).
2– وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: بالنسبة للعلماء الذين وقعوا في بعض الأخطاء في العقيدة، كالأسماء والصفات، وغيرها، تمر علينا أسماؤهم في الجامعة حال الدراسة، فما حكم الترحُّم عليهم؟
الشيخ: مثل مَن؟
السائل: مثل الزمخشري، والزركشي، وغيرهما.
الشيخ: الزركشي في ماذا؟
السائل: في باب الأسماء والصفات.
فأجاب: «على كل حال، هناك أناس ينتسبون لطائفة معينة شعارها البدعة، كالمعتزلة مثلًا، ومنهم الزمخشري، فالزمخشري مُعتزلي، ويصف المثْبِتِين للصفات بأنهم: حَشَوِية، مُجَسِّمة، ويُضَلِّلهم فهو معتزلي، ولهذا يجب على مَن طالع كتابه «الكشاف» في تفسير القرآن أن يحترز من كلامه في باب الصفات، لكنه من حيث البلاغة، والدلالات البلاغية اللغوية جيد، يُنْتَفع بكتابه كثيرًا، إلا أنه خَطَرٌ على الإنسان الذي لا يعرف في باب الأسماء والصفات شيئًا، لكن هناك علماء مشهودٌ لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة مِن أهل البدع، لكن في كلامهم شيءٌ من كلام أهل البدع؛ مثل: ابن حجر العسقلاني، والنووي -رحمهما الله-، فإن بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحًا تامًّا مطلقًا من كل وجه، حتى قيل لي: إن بعض الناس يقول: يجب أن يُحْرَقَ «فتح الباري»؛ لأن ابن حجر أشعري، وهذا غير صحيح، فهذان الرجلان بالذات ما أعلم اليوم أن أحدًا قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثل ما قدَّماه، ويدلك على أن الله -سبحانه وتعالى- بحوله وقوته -ولا أَتَأَلَّى على الله- قد قبلها: ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس، لدى طلبة العلم، بل حتى عند العامة، فالآن كتاب «رياض الصالحين» يُقرأ في كل مجلس، ويُقرأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعًا عظيمًا، وأتمنى أن يجعل الله لي كتابًا مثل هذا الكتاب، كلٌّ ينتفع به في بيته، وفي مسجده، فكيف يقال عن هذين: إنهما مبتَدعانِ ضالان، لا يجوز الترحُّم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما! ويجب إحراق «فتح الباري»، و «شرح صحيح مسلم»؟! سبحان الله! فإني أقول لهؤلاء بلسان الحال، وبلسان المقال: أَقِلُّوا عليهمْ لا أبا لأبيكمُ مِن اللومِ، أو سدوا المكان الذي سدوا، من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدَّم هذان الرجلان، إلا أن يشاء الله، فأنا أقول: غفر الله للنووي ولابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين، وأمِّنوا = =على ذلك» انتهى. «لقاءات الباب المفتوح» (43/ السؤال رقم 9).
3– وسُئل معالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء -حفظه الله-:
لقد ظهر بين طلاب العلم اختلاف في تعريف المبتدع فقال بعضهم: هو من قال أو فعل البدعة، ولو لم تقع عليه الحجة، ومنهم من قال لا بد من إقامة الحجة عليه، ومنهم من فرَّق بين العالم المجتهد وغيره من الذين أصلوا أصولهم المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وظهر من بعض هذه الأقوال تبديع ابن حجر والنووي، وعدم الترحم عليهم؟
فأجاب: «أولًا: لا ينبغي للطلبة المبتدئين وغيرهم من العامة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق؛ لأن ذلك أمر خطير وهم ليس عندهم علم ودراية في هذا الموضوع، وأيضًا هذا يُحدث العداوة والبغضاء بينهم، فالواجب عليهم الاشتغال بطلب العلم، وكف ألسنتهم عما لا فائدة فيه، بل فيه مضرة عليهم، وعلى غيرهم.
ثانيًا: البدعة: ما أحدث في الدين مما ليس منه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» - (رواه البخاري) -، وإذا فعل الشيء المخالف جاهلًا؛ فإنه يعذر بجهله، ولا يحكم عليه بأنه مبتدع، لكن ما عمله يعتبر بدعة.
ثالثًا: من كان عنده أخطاء اجتهادية تأوَّل فيها غيره، كابن حجر، والنووي، وما قد يقع منهما من تأويل بعض الصفات: لا يُحكم عليه بأنه مبتدع، ولكن يُقال: هذا الذي حصل منهما خطأ، ويرجى لهما المغفرة بما قدماه من خدمة عظيمة لسنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهما إمامان جليلان، موثوقان عند أهل العلم» انتهى. «المنتقى من فتاوى الفوزان» (2/ 211، 212).
4– وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث العصر -رحمه الله-: «مثل النووي، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهما، من الظلم أن يقال عنهم: إنهم من أهل البدع، أنا أعرف أنهما من «الأشاعرة»، لكنهما ما قصدا مخالفة الكتاب والسنَّة، وإنما وهِما، وظنَّا أنما ورثاه من العقيدة الأشعرية: ظنّا شيئين اثنين:
أولًا: أن الإمام الأشعري يقول ذلك، وهو لا يقول ذلك إلاَّ قديمًا؛ لأنه رجع عنه.
وثانيًا: توهما صوابًا، وليس بصواب. انتهى من (شريط رقم 666) «من هو الكافر ومن هو المبتدع».
فرحم الله: النووي وابن حجر، وغفر لهما ما أخطآ فيه، والله أعلم.
وقد ذكرت ونقلت هذا ديانة وأمانة، والحمد لله رب العالمين.