الفراغ والإجازة
في هذه الأيَّام يهتمُّ العقلاء ويخطِّط النبلاء؛ لأنَّهم في مستهلّ إجازة عظُم وقتها، وقلَّت أشغالُها، فماذا ينتظر الأبناء فيها، وماذا أعددنا لها؟
- التصنيفات: ملفات إجازة الصيف -
عباد الله:
في هذه الأيَّام يهتمُّ العقلاء ويخطِّط النبلاء؛ لأنَّهم في مستهلّ إجازة عظُم وقتها، وقلَّت أشغالُها، فماذا ينتظر الأبناء فيها، وماذا أعددنا لها؟
إنَّ أعظم ما تتميَّز به هذه الإجازات الفراغ، وهذا الفراغ سلاح ذو حدَّين، إنِ استعمل فيما ينفع أو فيما يباح، عادَ على صاحبه بالخيرات، وإن قُضِي هذا الفراغ فيما يحرم ويضرُّ، صار على صاحبه حسرات، وعاد عليه بالمضرَّات.
عباد الله:
إنَّ الفراغ وطرق اغتنامه قضيَّة عظيمة، يجب ألا يُستهان بها، وأن لا يغفل عنها، ولا أدلَّ على ذلك من إشارة المولى إليْه في كتابِه، وحرص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمره باغتنامه وحثِّه على استغلاله؛ يقول - جلَّ وعلا -: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]، ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتَك قبل موتك، وصحَّتك قبل سقمك، وفراغك قبل شُغلك، وشبابك قبل هَرَمِك، وغناك قبل فقرك».
عباد الله:
إنَّ الإسلام دين صالح للواقع والحياة، يعامل الناس على أنَّهم بشر تحتاج أنفسُهم شيئًا من التَّرويح واللهو المنضبِط بضوابط الإسلام، فهو لم يَفترض فيهم أن يكون كلُّ كلامِهم ذكرًا، وكلّ شرودهم فكرًا، وكل تأمُّلاتهم عبرة، وكل فراغهم عبادة، بل وسَّع لهم في التَّعامل مع كل ما تتطلَّبه الفطرة البشرية السليمة من فرح وترح، وضحك وبكاء، ولهْو ومرح في حدود ما شرعه الله تعالى، ولقد كان واقع النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصَّحابة يؤكِّد أحقِّية جانب المرح والتَّرفيه في حياة الإنسان؛ يقول سماك بن حرب: قلتُ لجابر بن سمرة - رضي الله عنه -: كنتَ تجالس رسولَ الله - صلى الله عليه وسلَّم؟ قال: "نعم، كان طويل الصَّمت، وكان أصحابه يتناشدون الشعر عنده، ويذْكرون أشياء من أمر الجاهلية، ويضحكون فيتبسِم معهم إذا ضحكوا"؛ (رواه مسلم).
وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: "لَم يكن أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - منحرفين، ولا متماوتين، وكانوا يناشدون الأشعار في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليَّتهم، فإذا أريد أحدُهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه".
وذكر ابن عبدالبر عن أبي الدرداء - رضِي الله عنه - قال: "إني لأستجمُّ نفسي بالشيء من اللَّهو غير المحرم، فيكون أقوى لها على الحقِّ"، ويقول ابن الجوْزي - رحمه الله -: "ولقد رأيت الإنسان قد حمل من التكاليف أمورًا صعبة، ومن أثقل ما حمل مداراة نفسه وتكليفها الصَّبر عمَّا تحب وعلى ما تكره، فرأيت الصَّواب قطْع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس...، وفي كلام له أيضًا يقول - رحِمه الله -: فينبغي قطْع الطريق بألْطف ممكن، وأخْذ الرَّاحة للجِدِّ جِدّ، وغوْص السَّابح في طلب الدُّر صعود، ومن أراد التلطُّف بالنفس فلينظر في سيرة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّه كان يتلطف بنفسه، ويُمازح ويخالط الناس، ويَختار المستحسنات، ويختار الماء البارد والأوْفق من المطاعم". اهـ.
عباد الله:
لقدِ اتَّسع مفهوم الإجازة عند البعض ليشمل إعطاء النفس الرَّاحة حتَّى من عبادة خالقها، وإفلاتها من أخلاقها، فأضْحت الإجازة عندهم محصورة في التجوُّل في البلدان والمصائف، والتخلُّص من المثل والقيم، والتفريط في الصَّلوات والعكوف على ألوان الملاهي والشهوات، وهم مع ذلك لا يجدون لذَّة للإجازة ولا متعة للفراغ، وهذا مصداق لتلك الدِّراسات والتقارير التي تكشف أنَّ أكثر النَّاس إصابة بالأمراض النفسيَّة هم المنفتحون على كل شيء، والمشاهدون لكلِّ شيء، والمستمعون لكلِّ لغو، والمتخفِّفون من تكاليف الشرع، فلم تزِدْهم تلك الغفلة والمؤانسة المنحرفة إلاَّ همًّا وكمدًا.
عباد الله:
إنَّ الاغتنام الأمثل لأيَّام الإجازة الصيفيَّة يبدأ أوَّلاً بتحديد الأهداف والأعمال التي يرغب في تنفيذها، ثم العمل على إيجاد الوسائل المناسبة لتنفيذ وأداء تلك الأهداف، ومن ثَمَّ تقييم العمل بعد الفراغ منه، وكلَّما كان الهدف خيرًا، والوسيلة صالحة، والتَّقييم دقيقًا، كلَّما تحقَّقت النَّتائج بشكل أفضل، وأوْرثت صاحب الهدف أنسًا وسعادة، يحسُّ بها في الدينا ويجد جزاءَها يوم يلقى ربِّه، حين لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ مَن أتى الله بقلب سليم.
أيُّها المسلمون:
إنَّ ما ينبغي العناية به حين وضع الأهداف وترتيب برنامج الإجازة للفرد وللأسرة أن يُدْرِك الولي والفرْد واقع أسرته وذاته قبل تحديد الأهداف، فمعرفة الواقع للأبناء، ومعرفة إمكانيتهم يساعد في تحديد الهدف المناسب والمرجوّ حصوله، فمَن يَميل من الأبناء إلى مهنة وحرفة عمليَّة لا تعتمِد على الحفظ مثلاً، ليس من اللاَّئق أن نضَع له ونطالبه بعملٍ يعتمد على الحفظ فقط دون مراعاة لاهتماماتِه وميوله، وهكذا الشَّأن مع جَميع الأبناء والبنات، بل مع النَّفس أيضًا، فكلٌّ ميسَّر لما خلق له، ومتَى أحسن المرء نيَّته أيًّا كان عمله في النجارة أو الحدادة أو التجارة واتَّقى الله في عمله، فلن يُحْرَم الأجر والثواب، وسيسدّ ثغرة ربَّما يحتاج المسلِمون إليْها غدًا، وحسْبك بقول المولى سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
عباد الله:
إنَّ ما يُحمَد لبلادنا ما تقوم به بعض الجهات الرسمية، وبعض مؤسسات المجتمع، من برامج وفعاليات تساعِد الآباء والأمَّهات في شغل أوقات فراغ أبنائهم بما يعود عليهم بالفائدة والمتعة، فهناك الدَّورات العلميَّة في مختلف التخصصات، وهناك دورات لحفظ كتاب الله ومراجعته وإتْقانه، وهناك دورات لحِفْظ الصَّحيح من سنَّة محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وما دوَّنه علماء الأمَّة من متون علميَّة متخصِّصة، وهناك نجِد النوادي الصيفيَّة التي تحتوي الشباب والشَّابات فتصقل مواهبهم، وتحفظ أوقاتَهم، وتعلمهم وتربِّيهم، فجزى الله أولئك العاملين الباذلين أنفسهم وأوقاتَهم من أجل أبناء المسلمين كلَّ خير، وجعل ما يقدمونه في ميزان حسناتهم، إنَّه سميع مجيب.
أيُّها الآباء:
فكِّروا في واقع أبنائكم ومستقْبلهم ماذا خبأتُم لهم، وماذا أعددتُم لأجلهم في هذه الإجازة؟ هل هو النُّور والشرف؟ أم هو الإهمال والتَّلف؟ وتذكَّروا جميعًا قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته».
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِدًا ♦♦♦ نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ البَذْرِ
بارك الله لي ولكُم في القرآن والسنَّة، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية
عباد الله:
حريّ بالمسلم أن يدرك شرف زمانه، ويتَّخذ من مرور الليالي والأيَّام عبرةً لنفسه، فإنَّ اللَّيل والنَّهار يبليان كلَّ جديد، ويقربان كلَّ بعيد، يطويان الأعمار ويشيبان الصغار ويفنيان الكبار؛ {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
عباد الله:
إنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه، ولا يُجنى من الشوك العنب، فإذا أردْنا لأبنائِنا وزوجاتنا حسنَ اغتنامهم لأوقاتهم في هذه الإجازة، فلنكُن خير قدوات لهم في ذلك؛ لأنَّ التأثير بالفعل أبلغ من التأثير بالقول، وخاصَّة لدى الأبناء والزوجات؛ إذْ كثرة الخلطة تُضْعِف القبول وتقلِّل الأثر، وقديمًا قيل: زامر الحي لا يطرب، فحذارِ ثمَّ حذار أخي المسلم أن يصدُق فيك قول القائل:
إِذَا نُصِبُوا لِلقَوْلِ قَالُوا فَأَحْسَنُوا ♦♦♦ وَلَكِنَّ حُسْنَ القَوْلِ خَالَفَهُ الفِعْلُ
ولتكن كما قال الأوَّل:
إِذَا نَحْنُ قُلْنَا صَدَّقَ الفِعْلُ قَوْلَنَا ♦♦♦ وَكَمْ قَائِلٍ قَوْلاً يُكَذِّبُهُ الفِعْلُ
وأصدق مِن هذا وذاك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصَّف: 2، 3].
عباد الله، صلُّوا على مَن أمركم الله بالصَّلاة والسَّلام عليه.