التخطيط الحقيقي

منذ 2022-08-04

هل وضعْنا في اعتبارنا ونَحن نخطِّط لهذا العام مسألة "قُرْبنا مِن الله"؟

مع إطلالة عام جديد تبدأ العديدُ من الفعاليَّات، والجهات، والأفراد، بإعادة حساباتها، وترتيب أوراقها، ومراجعة أهدافها، أو ما ترغب في تحقيقه من شؤونها، واهتماماتها، فتلك تستعد لعقْد مُؤتمر أو برامج تدريبيَّة، وأخرى لها مَوعد بعد أشهُر مع حدَث سعيد، كحفل زفاف، ونحوه، وآخرون يُراجعون مهماتِهم بالحذف أو التعديل أو الإضافة، وهذا لا غبارَ عليه وهو المطلوب، ولكن، والسؤال للأفراد: هل وضعْنا في اعتبارنا ونَحن نخطِّط لهذا العام مسألة "قُرْبنا مِن الله"؟

هل سألْنا أنفُسَنا: كيف أحوالنا مع الصلاة؟ هل راجعت نفسَك مع عمود الدين؟ وهل وقفت مع أول ما يُسأل عنه العبدُ يومَ القيامة؟ تلك التي بصلاحها صَلَحَ سائر العمل، وبفسادها فَسَدَ سائر العمل، هل نصلِّي بخشوع تامٍّ، أو على الأقلِّ حاولنا تحصيلَ ذلك، أو لا نزال نَنْقُرها نَقْرًا؟ هل صلَّيناها في وقتها، وهو العمل الذي يُعَدُّ مِن أحبِّ الأعمال إلى الله، أو أنَّنا أدَّيناها خارجَ وقتِها؟ ثم ماذا عن السُّنن والرَّواتب؟ هل وضعْنا في تخطيطنا لهذه السَّنَة القرآنَ كتابَ الله العظيم، وتلك المعجزة الخالدة، الكتاب الذي تراه أعيُننا ليلَ نهارَ في المساجد، والمنازل، والمكاتب، هل حاولنا تأمُّله وتدبُّره؟

هل تأمَّلنا قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، أو لا نزال نقرؤه بالصورة التي لا تَخرُج عن تحريك اللسان دُون الجَنَان، ثم إنِّي أريد أن أسأل سؤالًا آخر: هل نحن في آخر الزمان، أو في أوله؟ لو تأمَّلنا النصوص الواردة في القرآن، لوجدناها جميعها تتحدَّث حولَ قُرب الساعة؛ قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]، وقال سبحانه: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63]، هل تأمَّلنا قوله تعالى كما في آخر سورة النازعات: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]، وهذا مِن مباغَتَتِها لنا إلى درجة الذُّهول مِن سرعة وقوعها دون وَعْيٍ منَّا أو استعداد.

ثم لننظر إلى النُّصوص النبوية الشريفة، التي تَحَدَّث فيها نبيُّنا مُحمد المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام حَوْلَ ما يَحصُل في أحوال الناس في آخر الزَّمان من التطاوُل في البنيان للحُفَاة العُراة رعاة الشاء، أو إسناد الأمر إلى غير أهله، أو ظهور النِّساء كاسيات عاريات، رؤوسُهن كأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائلة، أو تَسَافُدِ الناس في الطُّرقات، كتسافُدِ الحمير، أو مِن تسارُع الزمان مِن السنين والشهور والأيام، حتى أصبحنا نصاب بالدَّهشة إنْ ذكَّرَنا أحدُهم بأنَّ الحدَث الفلانيَّ قد مَضى عليه كذا وكذا مِن الزمن، خُذ على سبيلِ المثال لا الحصر حادثة سنة 2000 تلك المتعلِّقة ببرمجة الحاسبات، والتي أحدثت ضجة آنَ ذاك، وتابَع العالَمُ الحدَثَ بكلِّ تفاصيله، أقول: كلنا يلحظ كأنَّ الحدثَ مضى عليه عامان أو ثلاثة، ثم انظرْ أين نحن من عام 2000 للميلاد، ولا شَكَّ أن لكلٍّ منا، لديه من الأحداث التي عاشها، والتي لا تزال أحداثها تملأ حيزًا من ذاكرته يشعر معها أنَّها قريبة منه، كقرب سماعه لدقات قلبه.

دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ        إِنَّ الْحَيَاةَ  دَقَائِقٌ  وَثَوَانِي

لقد أخبَر صلَّى الله عليه وسلَّم، كما في حديث أبي هريرة عند الترمذي: «إِنَّ عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين»؛ (سُنن الترمذي، رقم 2253)، وهذا يعني أنَّ من بلغ الأربعين من العمر بَقِيَ له عشرون سنة، إن كتب الله لنا ولهم الحياة؛ كي يصل للستين، فضلاً عن أن الكثير من الناس قد مات قبل الأربعين، كما أنَّ العديدَ مَن عُمِّر في الحياة بعد السبعين، ولكن الحكْم هنا على الغالب، وهذا واقعٌ ومُشاهَد، فهل بالله عليكم عشرون سنة، هل هي كافية لأنْ نَحيا على طاعة الله؟! ثم وهو الأهمُّ أنَّه ليس لأحد كائنًا مَن كان يَملك ضمانًا بأن حياته مستمرة حتى الستين؛ قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]، وهذا يعني أنَّ المبادرة للخيرات والمسابقة لنيل رضا المولى عزَّ وجلَّ تبدأ مِن الآن، الآن وبعد انتهائك مِن قراءة هذا المقال مُباشرة.

في الغرب أُجْرِيَتْ دراساتٌ حَوْلَ أكثر ما تضيع فيه أوقاتنا دون فائدة، ابتداء مِن النوم، مرورًا بفترات السير في الشوارع، والوقوف عند إشارات المرور، وأمور أدقَّ مِن ذلك؛ بهدف الوصول لمعرفة كيفَ تضيع أوقاتنا فيما لا طائلَ من ورائه، وهم لا يَرجون بذلك جَنَّة أو يخافون مِن نار، حِرْصُهم فقط مُنْصَبٌّ على الحياة؛ كما في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96].

إنَّ الفرد الذي يتمتَّع بقَدْر مِن المعرفة والفهم يُدرك جيدًا أنَّ الأولى هو قضاء الأوقات وإنجاز الأعمال بحسب أهميتها، ودرجة إلحاحها، فشريعتُنا الغرَّاء - كما أنَّها تدعو المسلم للعمل وإعمار الأرض - هي ذاتها مَن تدعوه لإدراك أنَّ الغايةَ مِن الخلْق والإيجاد هي العبادة؛ قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، والعبادة كما عرَّفها أهل العِلم: هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبه اللهُ ويرضاه مِن الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة؛ إذ هي الوظيفة العُظمى التي خلقنا مِن أجْلها، والعمل الأسمى المطلوب منَّا، والجزاء هو نَجاح في الدنيا وفلاح في الآخرة؛ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] في الدنيا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] في الآخرة.

ومع ذلك تسير حياة الأغلب منَّا بعكس ما يحبُّ لها أن تسير، فقد أصبحَ الاهتمامُ بسُبل العيش والرزق يَطغى على جانب العبادة، ويُعلِّق ابنُ القيم حول هذا المعنى؛ حيث يقول: "مشكلة كثير من الناس الاهتمام بالرِّزق على حساب العبادة، مع العِلم أنَّ الرزق والأجَل قرينانِ لا يَفترِقانِ، فطالما هناك أجَل للمَرء هناك رزق؛ وذلك كي تتفرَّغ لعبادته سبحانه"؛ (انتهى كلامه بتصرُّف).

قد يقول قائل: لماذا لا أدَع حياتي تسير كما هي، وعند الكِبَرِ أبدأ بمضاعَفة الأعمال الأخرويَّة، على اعتبار أنني أقرب الآن إلى النِّهاية مِن أيِّ وقت مضى؟ وأجيب هنا فأقول: قد أَشَرْتُ سابقًا إلى أنه ليس لأحد منَّا ضمان أنه يعيش حتى يَبلُغ مِن العمر عِتِيًّا.

الأمر الآخر وهو الأهم: أنَّ حكمةَ الخالق جَلَّ وعلا قد اقتضَت أنَّ مَن كان في أيام رخائه حافظًا لحدود الله وأوامره ونواهيه، ومدركًا حَقَّ الله عليه - لن يُخْذَل وقتَ الشِّدَّة والتعب والمرض في حال الهَرَم، بل إنَّ بعضَهم بفضْل حفْظِه لتلك الجوارح أيامَ شبابه هو أَدْوَمُ لها وأحفَظُ حالَ كِبَرِهِ، وقد يَفُوق عددًا كبيرًا مِن الشباب في حرصه على الصَّلاة والتبكير للمساجد وأداء النوافل.

أيها القارئ الكريم، إنْ أردتَ التخطيطَ الحقيقيَّ، فإنَّ ما ذكرناه هو التخطيط الحقيقي، والآن دعني وإياك نتعرَّف على الدَّور المطلوب منا بعد هذا العرض، أذكره بإيجاز إزاء النقاط السريعة التالية:
1- لا بُدَّ مِن وقفة مع النَّفس نتعرَّف فيها على مَواطن الخَلَل التي قلَّ أنْ يسلمَ منها أحد، وأن نحاول تداركها في القادم من الأيام، فاليومَ عمل ولا حساب، ولكن غدًا حساب ولا عمل.
2- لا بد من تجديد التوبة مع الله، والإنابة، والاستغفار مِن كل أَوْجُه التقصير، وفي الحديث: «كلُّ ابنِ آدمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التَّوَّابُون».
3- الدُّعاء، الدعاء، الدعاء بدلًا مِن أن ندعو الله فقط لتحقيق حاجاتنا، لِمَ لا ندعوه سبحانه التوفيقَ والإعانة على أداء الصلاة في وقتها، وتلاوة القرآن فهمًا وتدبرًا، والعمل بما فيه؛ فهو العبادة وهو الاستجابة لأمر الله، وهو الدَّليل العملي في صدْق رغبتك بقُربه وطاعته، جَرِّب ذلك، وستلحظ الفرق بإذن الله.
4- كتابة الأهداف ولو للعام الجديد، ففيها التزام منك بالعمل على تحقيقها، وهي وسيلة فَعَّالة في بَرمَجة العقل الباطن على حثِّه على التفكير دائمًا في إتمامها، والدراسات تشير إلى 3 % فقط من الناجحين يكتبون أهدافَهم في أوراق، ويَحتفظون بها، فلم لا تنضم إليهم؟!
5- كافئ نفسَك عند إتمامك لأهدافك، ولا مانع أن تتدرَّج بها بحسب درجة الهدف الذي حقَّقْتَه، فليس من السَّهل عند الكثيرين الالتزام بما كتبوه، ولكنَّها سِمَة الناجحين والشخصيات الفاعلة، فإنْ كنتَ منهم، فأنت تستحق المكافأة، وسوف تشعر بمشاعر إيجابية كما لو تم تكريمك من جهة ما، إنَّ حياةً وُصِفَت بأنَّها متاع الغرور، وعَرَض زَائل - لا تستحق منَّا سُمُوًّا في الاهتمامات والأولويات على حياة باقية ونعيم أبدي لا يزول، وكما قال ابن القيم رحمه الله: أعظم الربح في الدُّنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها، وأنفع لها في معادها.

____________________________________________________

الكاتب: أ. صالح أحمد الشمري

  • 3
  • 0
  • 944

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً