لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ....
أحمد قوشتي عبد الرحيم
ثم تأتي لحظة مفارقة الطفولة ببراءتها وعفويتها لمرحلة البلوغ بتكاليفها ومشاكلها ولكنها ضريبة لابد منها
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
لا تخلو حياة الإنسان - من أولها إلى آخرها - من سلسلة متتابعة من الكبد والنصب ، والشدة والعناء ، والخيارات الصعبة ، والمفاضلة بين أنواع من المشاق والآلام ، بعضها عاجل والآخر آجل ، وبعضها هين والآخر ثقيل شديد ، والعاقل من تلمح العواقب ، وتحمل التعب اليسير طمعا في الراحة الكبرى .
وأول كبد يعانيه الإنسان : لحظة خروجه من بطن أمه ومواجهته الدنيا باكيا ، تاركا رحم الأم الآمن الضيق إلى الحياة الواسعة المليئة بالمخاوف والابتلاءات .
وبعد أن يتعود قريبا من الحولين على لبن الأم كغذاء رئيس مفضل ، تأتي لحظة الفطام بألمها وشدتها ، لكنها خيار لابد منه حتى يترك النوع الواحد من الطعام إلى الأصناف المختلفة والمتنوعة .
وبعد أن يظل محمولا من المحيطين به تأتي لحظة تعلم المشي وما يصاحبها من سقوط وآلام لابد منها ليسير على قدميه وليضرب في مناكب الأرض الواسعة غير محتاج لمن يحمله .
ثم تأتي لحظة مفارقة الطفولة ببراءتها وعفويتها لمرحلة البلوغ بتكاليفها ومشاكلها ولكنها ضريبة لابد منها ليكون رجلا ، وليواجه الدنيا ، وليتحمل أمانة التكليف ، وليعمر الأرض ، وليحقق شيئا ذا بال .
ومع طول الحياة وعرضها يواجه بخيارات وامتحانات ، يفاضل فيها بين أنواع من الآلام ، وكل امرئ وما اختار :-
- فهل يأكل الحرام ، ويتعامل بالربا ، ويغش في المعاملات ، ويقبل أي وظيفة ولو كانت محرمة ليجني المال أم يصبر على الفقر وقلة المال مع العفاف والأمانة .
- وهل يطلق بصره في الحرام ، ويتسكع كيفما شاء ، ويرتع في الشهوات ، أم يصبر ، ويتعفف ، وينهى النفس عن الهوى ، حتى يرزقه الله الحلال الطيب .
- وإن كان عنده شيء من علم ، فهل يتكلم بالباطل باحثا عن الشهرة والمناصب ومقدما ما يطلبه من بيدهم الغنائم ، أم يستمسك بالحق ، ويصبر على تكاليفه حتى يلقى الله غير مبدل ولا مغير .
- وهكذا تستمر المكابدة والاختبارات المتوالية في التعامل مع النفس والناس والأحداث ، حتى تأتي أخيرا لحظات مفارقة الروح للبدن ، وسكرات الموت وشدته ، وتلك الآلام التي لابد منها ليترك ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، وكبد الحياة ونصبها إلى جنات النعيم حيث لا تعب ولا نصب ولا لغوب .
قال تعالى { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }