المساواة في العدل

منذ 2022-08-07

قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].

قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].

 

تؤسِّس هذه الآيةُ الكريمةُ لمبدأ المساواة في العدل؛ فهي تقرِّر للنساء حقَّ المساواة في العدل، وتُعطيهن من الحقوق والواجبات مثلَ ما عليهن من الحقوق والواجبات، في حدود ما تَعارَف عليه الناس من ذلك مما هو موافقٌ للشرع؛ لأن أعراف الناس في تلك الحقوق والواجبات تتغيَّر من بيئة لأخرى، ومن زمن لآخر.

 

ودلالة السياق ظاهرة في أن المراد بتلك الحقوق في الآية: الحقوق الزوجية، فللمرأة من تلك الحقوق مثلُ ما عليها، فإذا كان من حق الزوج عليها أن تتزيَّن له، وتتهيَّأ وتهشَّ في وجهه وتبشَّ، فمِن حقِّها عليه أن يتزيَّن لها - في حدود ما يَسمح به الشرع من ذلك - ويهشَّ في وجهها ويبشَّ، وإذا كان من حقه أن يَدعوها لقضاء وطر متى أراد ذلك؛ فمِن حقِّها عليه أن تدعوه لمثل ذلك، إنه العدل في المساواة في الحقوق الواجبة لكلٍّ منهما على الآخر، ولو نظرنا إلى ظاهر اللفظ، وطرحْنا السياقَ جانبًا لكان معنى الآية: أن للنساء المدلول عليهن بضميرهن المختصِّ "لهن" من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال عليهن من الحقوق، فتدخُل في ذلك الزوجة والأم والبنت والأخت والخالة والعمة، وغيرهن ممن للمخاطَب عليهن حقُّ صلةٍ أو إحسان؛ فإن لهن عليه مثل ما له عليهن، وهو أمرٌ ثابتٌ وإنْ لم تُقرِّره الآيةُ من سياقها، فبِرُّ الأمِّ قضاءٌ لحقٍّ سابقٍ للابن، فكان له عليها الرضاعُ والحضانةُ وحُسن الرعاية والتربية؛ فَتَقَرَّرَ لها عليه بذلك حقُّ البِرِّ والإحسان، وبرُّ الأبِ قضاءٌ لحقٍّ سابقٍ كذلك، وكذا في القرابات كلها فلا تجد حقًّا يَثبُت لرجلٍ على امرأةٍ إلا ولها عليه حقٌّ يُقابل ما له عليها.

 

لكنَّ التعبير القرآنيَّ في الآية لا يُعطي المساواة المطلقة كما تَعَسَّفَهُ بعضُ المفسِّرين المستعجلين في النظر إلى مدلول الآية، حتى في سياقها، فذهبوا يُقرِّرون مبدأ المساواةِ المطْلقة بين الرجل والمرأة في كل شيء؛ مستدلِّين على ذلك بهذه الآية وما شاكلها، والحقُّ أن الآية إنما قرَّرَت مبدأ المساواة في العدل في الحقوق والواجبات، ولم تقرِّر مبدأ المساواة في التكاليف بتلك الحقوق والواجبات؛ لأن ذلك قد يكون جورًا وظلمًا؛ لما قد يَترتَّب عليه مِن تكليف أحدِهما بما لا يناسبه؛ بحجة العدل للآخر المكلف في ذلك بما يناسبه، إن الرجل مطالَبٌ بالعدل بين أبنائه والمساواة بينهم في ذلك: "فاتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم" لكن ذلك لا يلزم منه المساواة بينهم في الحقوق والواجبات؛ بل العدل تكليف كلٍّ بما يُطيق مِن ذلك؛ للتفاوُت والفروق الفردية التي تكون بين الأبناء، إنَّ حقَّ كلٍّ منهما في المطعَم والملبَس كفايتُه، ومن التعليم مقدرتُه، فلو كان له ولدانِ أحدُهما لا يكفيه من الطعام إلا دجاجة وثلاث أرغفة، والآخر يكفيه ربع دجاجة ورغيف واحد؛ لكان العدل يقتضي إعطاء كل منهما كفايته فيعطى الأول دجاجة وثلاث أرغفة، ويعطى الثاني ربع دجاجة ورغيفًا، وذلك هو مقتضى العدل، ولو ذهب يسوِّي في العطاء لَظَلَمَهُما: فلو أعطى الأول ربع دجاجة ورغيفًا لَظَلَمَه لأنه لم يعطه كفايته، ولو أعطى الثاني دجاجة وثلاث أرغفة لَظَلَمَه لأنه كلَّفه في ذلك بما لا يطيق وما لا تتَّسع له معدته.

 

وكذا في التعليم، فالعدل بينهما أن يُعطى كلٌّ منهما ما يَستطيعه ويُناسبه، فلو كان أحدُهما يحفظ ربعًا من القرآن في جلسة واحدة، والآخر لا يستطيع أكثر من ربع صفحة؛ لكان العدل أن يُعطي كلا منهما ما يستطيعه، فلو أعطى الأول ما أعطى الثاني لَظَلَمَه لأنه قَصَرَهُ على ما يستطيع أكثر منه، ولو أعطى الثاني ما أعطى الأول لَظَلَمَه لأنه كلَّفه بما لا يُطيق، فكذلك هذه الحقوق المساواة فيها في العدل لا في مبدأ التكليف، فما اشتركا فيه فلكلٍّ منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه، وما اختصَّ به كلٌّ منهما للآخر عليه ما يُقابله مما اختصَّ به الآخر، وذلك هو العدل المطْلق، وهو الذي تُقرِّره نصوصُ الكتاب والسُّنَّة.

 

وفي ظلِّ هذه المساواة في الحقوق والواجبات، قد تشرئبُّ نفسُ المرأةِ إلى المساواة المطْلقة، فتَنسَى درجةَ القوامة، فترى أن لها مِن ذلك مثْل ما عليها، فيذكِّرها السياقُ بتلك الخصوصية للرجل في إشارة لا تكْسِر الخاطرَ، ولا تعكِّر صفوَ هذه المساواة في العدل؛ لأن تلك القوامة حين ذُكرَت في سياقها ومكانها ذُكِر للمرأةِ فيها ما يُقابلها من الإنفاق ونحوه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، وليس المقام هنا مقام تقرير تلك القوامة وما يُقابلها من حقوق للمرأة، بل المقام مقام إشارة إليها وتذكير بها، حتى لا تُنسَى في غمرة نشوة هذه المساواة في الحقوق الواجبات.

 

ولكن السياق حين أعطى الرجل تلك الدرجة، وذكَّر المرأة بها، لم يُغفِل ذكْر ما يحدُّ مِن تلك الدرجة، وما قد تُورثه عند الرجل من استعلاء، فختم الآية بما يشلُّ حركةَ كلِّ مستكبرٍ مُسْتَعْلٍ: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، فالله عزيز قد قَهَرَتْ عزَّتُه وسلطانُه كلَّ عزَّةٍ وسلطانٍ، حكيم يضع الأمور مواضعها، فاقتضتْ حكمتُه العدلَ والإنصافَ، وتكليفَ كلِّ إنسانٍ بما يُطيقُه ويُناسبه، واقتضَت عزَّتُه الانتصافَ لمن تُعُدِّيَ على حقه رجلًا كان أو امرأة، ولا ناصر لمن أراد الله الانتصاف منه، فليقتصِر كلٌّ على ما له، وليؤدِّ ما عليه، وفق شرعة العزيز الحكيم.

____________________________________________________

الكاتب: الدكتور محمد ولد سيدي عبدالقادر

  • 1
  • 0
  • 707

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً