بين التوفيق والخذلان
أحمد قوشتي عبد الرحيم
" قد أجمع العارفون بالله أن التوفيق: أن لا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان: أن يخلي بينك وبينها.
- التصنيفات: التقوى وحب الله -
مشهد التوفيق والخذلان من المشاهد العجيبة التي يتقلب فيها العباد ما بين آونة وأخرى ، وهذا كلام عال رقيق في بسط شيء من هذه المعاني القلبية يحتاج لتأمل وقراءة على مهل :
" قد أجمع العارفون بالله أن التوفيق: أن لا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان: أن يخلي بينك وبينها.
فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له، فهو دائر بين توفيقه وخذلانه.
فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود في هذا وهذا، له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئا هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله.
فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه، علم ضرورته وفاقته إلى التوفيق كل نفس وكل لحظة وطرفة عين، وأن إيمانه وتوحيده ممسك بيد غيره، لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرشه ولخرت سماء إيمانه على الأرض، وأن الممسك له من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.
فهجيرى قلبه ودأب لسانه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك، ودعواه: يا حي يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك.
ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيته وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويلقي نفسه بين يديه طريحا ببابه مستسلما له، ناكس الرأس بين يديه، خاضعا ذليلا مستكينا، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا "
مدارج السالكين لابن القيم 2 / 26 .