الإبراهيمية.. الحلم الكاذب
هذا المصطلح الذي يراهن عليه قادة المشروع الصهيوني في فلسطين يحاول التسويق لتقارب بين النصرانية واليهودية والإسلام عبر ربطها بنبي الله إبراهيم عليه السلام، وذلك مقدمة لحوار بين الأديان الثلاثة هدفه احتواء الصدام وتقريب وجهـات النظر والترويج لفكرة ...
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
ابتدع اليهود ما يُعرَف لدى إعلامهم بمصطلح (التمسكُن) وبرعوا في تسويق أنفسهم بأنهم ضحايا نازية الزعيم الألماني الراحل أدولف هتلر، واستطاعوا عبر تلك الوسيلة استنزاف النظام الغربي بأسره إلى يومنا هذا، بل الأكثرُ من ذلك جرأةً نجاحهم في إجبار النظام السياسي الغربي بأكمله على تشريع قوانين تجرِّم أي تلميح أو تصريح بنقدهم. ولجلب مزيد من الدعم والاستفادة من التضامن العالمي معهم؛ وجدوا حاضنة سياسية أكبر حجماً من اليهودية كهوية تخص العرق اليهودي، وهذا الأمر أكد عليه الرئيس الأمريكي جو بايدن في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط؛ إذ وقف في القدس مخاطباً الشعب اليهودي: «ليس عليك أن تكون يهودياً لتكون صهيونياً، أنا صهيوني».
وأصبحت الصهيونية داءً مرتبطاً بالمشروع اليهودي في فلسطين ليتجندَ لصالحه كثير من الساسة والإعلاميين وتصبحَ ظاهرة عامة تمثِّلها تيارات واسعة داخل الأوساط النصرانية ليصبح لدى الكاثوليك ما يعرف بـ (الإنجيليين الصهاينة)، ولدى البروتستانت (الصهيونية البروتستانتية)، ولتكن تلك بوابة المشروع اليهودي في فلسطين لاستنزاف النظام السياسي الغربي وابتزازه، ولتتحمل المنظومة الغربية بأسرها تكلفة بقاء الاحتلال اليهودي في فلسطين.
الدولة العبرية منذ عقود تتجه إلى تغيير عقيدتها القتالية، وشرعت في ابتداع كثير من الوسائل التي تؤكد تفوُّقها على جيرانها ومحيطها، فعُقدة الجغرافيا ونقص الكتلة البشرية تمثِّل أحد أهم عناصر الضعف لدى الصهاينة، لذلك يحاولون تعويض هذا الأمر بتبنِّي نهجٍ أكثر تركيزاً على التفوق الكيفي وليس الكمي، لذلك يلجأ الصهاينة إلى عناصرَ أساسية في عقيدتهم العسكرية وهي القتال خلف خطوط العدو من خلال نشر الفوضى وتحقيق الاختراقات وصنع كثير من الأزمات ومحاولة استنزاف الموارد؛ لأن إضعاف العدو يعني تقويض قوَّته والحدَّ من خطره. لذلك وجدنا الصهيونية أحد أهم أدوات اليهود لاحتواء النصارى وتجنيدهم في خدمة المشروع الصهيوني، ثم اليوم وبعد مُضيِّ أكثر من 70 عاماً على احتلال فلسطين يخرج إلى العلن مشروع ما يعرف بـ (الدين الإبراهيمي).
هذا المصطلح الذي يراهن عليه قادة المشروع الصهيوني في فلسطين يحاول التسويق لتقارب بين النصرانية واليهودية والإسلام عبر ربطها بنبي الله إبراهيم عليه السلام، وذلك مقدمة لحوار بين الأديان الثلاثة هدفه احتواء الصدام وتقريب وجهـات النظر والترويج لفكرة (إحلال السلام بين الشعوب والتركيز على نقاط التشابه ونبذ مسارات التصادم).
في خطاب ألقاه شيخ الأزهر أحمد الطيب خلال الذكرى العاشرة لاحتفالات بيت الأسرة المصرية وصف (الإبراهيمية)، بأنها (حلم كاذب)، وقال: «إن الهدف منها خلق دين جديد عديم اللون، لا طعم له ولا رائحة»، وأضاف أن العنوان الظاهر منها هو «القضاء على أسباب الخلافات والصراعات»، لكن في الحقيقة هي «دعوة لتقييد حرية الاعتقاد»، وفي الأوساط النصرانية المصرية وصفها القبطي بنيامين المحرقي، بأنها «دعوة مسيَّسة تحت ستار الغش واستغلال الدين».
انطلقت الدعوة إلى الإبراهيمية في القرن التاسعَ عشرَ عام 1811م، وتحولت إلى دراسات تطبيقية على يد المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في مقال كتبه عام 1949م بعنوان «الصلوات الثلاثة لإبراهيم».
وتقول الباحثة المصرية هبة جمال الدين، المحاضرة في العلوم السياسية في المعهد المصري للتخطيط القومي، وهي من الذين قطعوا شوطاً كبيراً في الاستقصاء عن (الإبراهيمية) بصفتها أهم أدوات الصهيونية لتقسيم المنطقة العربية، تقول الباحثة: الديانة الإبراهيمية مصطلح تأسس في أوائل القرن الحالي هدفه حل الصراعات في الشرق الأوسط وَفْقاً لما يعرف بـ (الدبلوماسية الروحية). لذلك نجد أن من يدعم هذا المسار اليوم هو الدولة العبرية، والمسيحية الصهيونية في العالم، وهما المستفيد الأكبر من هذا الأمر؛ فوفقاً لمركز مدار لمتابعة الشأن الصهيوني يقول: «بعد الإعلان عن (اتفاقيات أبراهام) ودخول أربع دول عربية فيه، يكاد لا يمر أسبوع واحد دون أن يتم توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الأكاديمية، السياسية، الأمنية والاستخباراتية».
إن الغاية الوحيدة التي يراد الوصول إليها من (الإبراهيمية) هي تغييب الدين عن السياسية والتأثير عليها، تقول هبة جمال الدين في كتابها: (الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد): « من أخطر التحديات الفكرية والثقافية استخدام مصطلحات مثل (الدبلوماسية الروحية) و (السلام الديني الدولي)، قد تكون مصطلحات مشرقة لكن محتواها مظلم ومضلل، فهم يريدون استخدام الدين في خدمة المشروع الصهيوني في المنطقة».
وتضيف جمال الدين، أن الإبراهيمية المزعومة هي دعوة للتسامح «تمهد الطريق لمحو التناقض الموجود بين المشروع الاستيطاني الصهيوني والعنصري والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني والعربي، فهو مصطلح يروج للدبلوماسية الروحية وحقوق الإنسان ومواجهة العنف والإرهاب والتسامح مع (إسرائيل) رغم مذابحها وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
أخذت الولايات المتحدة على عاتقها جعل (الإبراهيمية) إحدى أدواتها الدبلوماسية، لذلك ظهر هذا المصطلح في خطابات الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب عام 1990م، وجعلته وزارة الخارجية ضمن طابعها المؤسسي، وفي عام 1985م نشر الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر كتاباً بعنوان (دماء إبراهيم)، وفيه أكد على القواسم الإبراهيمية المشتركة لتحقيق تقارب بين الشعوب. وفي عام 2004م أطلقت جامعة هارفرد مشروعاً يسمى (مبادرة مسار إبراهيم) بدعم من البيت الأبيض يأتي بالتوازي مع مسار فرسان الهيكل، ولا يُعدُّ المسار الإبراهيمي مجرد مسار سياسي يتجه إلى استعداء الحضارة الإسلامية؛ بل إنه يشمل مخططاً جغرافياً غايته تصل إلى حدود (إسرائيل الكبرى).
تقوم الرؤية لهذا المسار على إنشاء اتحاد يضم 18 دولة عربية من بينها (إسرائيل) وتركيا وإيران، تكون حدودها بين نهري دجلة والفرات ونهر النيل، على أن يتم تسميتها بـ (الولايات المتحدة الإبراهيمية)، ويقوم على إدارة مشروع دولة الاحتلال الصهيوني.
وتؤكد الباحثة المصرية هبة جمال الدين أن فلسطين غائبة عن هذا المشروع الذي لا يهدف فقط إلى إلغاء القضية الفلسطينية؛ بل أيضاً إلى استهداف مباشر للهوية الإسلامية للشعوب العربية، ودمج الدولة العبرية عضواً في المنطقة تمهيداً للسيطرة والهيمنة، وتجريم المقاومة ضد الاحتلال وتصنيفها شكلاً من أشكال الإرهاب، والتحضير لتنازلات أكبر في الشرق الأوسط تخدم العدو الصهيوني.