بين الصحافة الجديدة والكتب!!
هنالك حرب عَوان بين الصحف ووسائط الاتصال الحديثة من ناحية، والكتب من ناحية أخرى؛ وهذه الحرب لا نراها ولا نشعر بها؛ لأنه ليس لها صليل السيوف ولا دوي القنابل، ولكنها مع صمتها شديدة قوية، يراها المفكر ويرتاع لمنظرها...
هنالك حرب عَوان بين الصحف ووسائط الاتصال الحديثة من ناحية، والكتب من ناحية أخرى؛ وهذه الحرب لا نراها ولا نشعر بها؛ لأنه ليس لها صليل السيوف ولا دوي القنابل، ولكنها مع صمتها شديدة قوية، يراها المفكر ويرتاع لمنظرها، ويَعْجب من هجومها ودفاعها؛ هي أشبه ما تكون بالحروب الاقتصادية، كالحرب بين السلع اليابانية والسلع الأوربية، وكالحرب بين الثقافة الإنجليزية والثقافة الفرنسية، تغيب عنك في كثير من الأحيان وسائلها، ولكن تبدو ـ في وضوح تام ـ نتائجها.
والحرب بين عالم الأنترنيت والكتب تدور على القراء؛ فهم ميادين القتال، وهم المستعمرات التي تحاول كل ناحية أن تشملها بنفوذها، وتبسط عليها سلطانها، وتأخذ صكًّا عليها بالاحتلال، أو كما يعبرون عنه باللغة الحديثة "الانتداب"، وحددت كل طائفة مطالبها واطمأنت إليها.
هناك طائفتان خرجتا من دائرة النزاع، وهما الطائفة المثقفة ثقافة دنيا، والطائفة المثقفة ثقافة عليا؛ فأما الأولى فقد احتلتها وسائل التواصل الاجتماعي وكسبتها كسبًا نهائيًّا؛ وهم بهذا الاحتلال راضون مطمئنون لا يضجون بشكوى ولا يرفعون احتجاجًا، ولا ينادون باستقلال، وقد يئست منهم الكتب وأخرجتهم من منطقة نفوذها، واعترفت بهزيمتها أمامهم هزيمة منكرة؛ هؤلاء هم طبقة العامة ومن في درجتهم، وتلاميذ المدارس الذين لم يتموا دراستهم، والطبقة الغالبة من الآنسات والسيدات المثقفات إلى حد ما.
وأما الطائفة الأخرى وأعني بها المثقفين ثقافة عُليا، فلا غنى لهم عن الكتب؛ لأنهم يرونها غذاءهم الدسم وعمادهم في حياتهم الفكرية، وهي التي تحقق مطالبهم، وتحاول أن تحل لهم ما يعرض لهم من مشكلات عقلية؛ وهؤلاء أمثال رجال الجامعات والقضاة والفلاسفة والأدباء والعلماء ومن يتصل بهم ومن ينهج منهجهم، ويعد نفسه للوصول إلى درجتهم؛ وهم يقرأون الصحف لأخبارها ووسائل التواصل الاجتماعي لطرافتها، واعتمادهم الحقيقي في علمهم وأدبهم على الكتب غالبًا.
وبين هاتين الطبقتين طبقات لا عداد لها هي محل الحرب بين وسائل التواصل الاجتماعي والكتب، وهي موطن النزاع، وهي الغرض الذي يرمي إليه كلٌّ للاستيلاء عليه؛ والحرب على هذه الطوائف سجال، يومًا تنتصر وسائل التواصل الاجتماعي فتشعر الكتب بالفشل، ولكن سرعان ما تتخذ التدابير للهجوم، ويومًا تنتصر فيه الكتب فتشعر وسائل التواصل الاجتماعي بلدغة الهزيمة ثم تستعد للوثبة، وهكذا دواليك.
ولكل جبهة من هذين المعسكرين وسائل للقتال وآلات للحرب، تقوم لها مقام الطيارات والغواصات والدبابات والغازات الخانقة في الحروب البدنية. وأنا أسوق لك طَرَفا قليلًا من هذه الوسائل:
- فوسائل التواصل الاجتماعي أخذت من جانبها تُعد صفحات فيها لأنواع الثقافة المختلفة: فصفحات للأدب، وصفحات للعلم، وأخرى للاقتصاد، ورابعة للقانون، وخامسة للفن وهكذا، تريد بذلك أن تغني القراء عن الكتب، وتزودهم بالصور والفيديوهات لعل ذلك يقضي على شهوة المطالعة والقراءة عندهم. ثم هي تجذب إليها أعلام الكتاب والأدباء والعلماء، وتطلب إليهم أن يوافوها بنتف من علمهم وأدبهم حتى يقبل القراء عليها.
ثم هي تعتمد على الإثارة والغريب من الأخبار، وتوقد النيران، حتى تلهب المشاعر وتشد الانتباه لها، وقد تعتمد طرقا عجيبة كأن النزاع بين الكتّاب في مسائل مهمة، مما يجعل للمعارك غبارا ونقعا يشغل الجميع.
- والصحف من جانبها تحارب الكتب بشتى الوسائل؛ فأحيانًا تستغل شهوة الجمهور بالكتابة في النواحي الحساسة فيهم، فنقدم لهم ما يشتهون، وتعلمهم منها ما يجهلون، وأحيانًا تسلك سبيلًا أشرف من هذا، فترفع مستواها وتصل إلى حد الكتب في بحثها أو خير منها، وتقدم لقرائها صورًا جذابة، وخرائط مبينة، فتستهوي القراء، وتجذبهم إلى مطالعتها، ويجدون فيها من التنوع والتعرض لشتى الموضوعات ما لا يجدونه في كتاب؛ وأحيانًا ترقى إلى أكثر من ذلك كالذي نجده في الغرب من مجلات دورية للجغرافيا وللتاريخ وللطبيعة وللكيمياء وللأخلاق والاجتماع وهكذا؛ يعكف على الكتابة فيها خاصة الخاصة، ويفخر العالِم بأن المجلة قبلت مقالته فنشرتها، ويجد فيها القارئ أرقى ما وصل إليه العلم من نظريات ومكتشفات، فهي من هذه الناحية سمت على أكتاف الكتب وحلقت فوقها.
وأما حرب الكتب لها فأكبر مظهر لذلك ما نراه سائدًا في عصرنا من محاولة المؤلفين الوضوح والإبانة ليصلوا بمعلوماتهم إلى أكثر الأوساط وأقلها ثقافة، واحتيالهم في أساليب الكتابة حتى يتعرضوا إلى أعقد المسائل وأعوص المشكلات، فيعرضوها في شكل لذيذ جذاب، فتشعر كأنك تقرأ قصة أو تستمتع برواية، ثم هم يُشوِّقون القارئ بشتى الأشكال فيسمون الكتاب "قصة الفلسفة" أو يسمون كتب التاريخ "قصة الأمم" ونحو ذلك؛ ثم يودعون الكتب من الصور الملونة للمناظر العامة والأشخاص وعظماء الناس ما يسهّل عليك دفع الثمن واقتناء الكتاب.
فأي ذلك خير للأمم؟ أن تنتصر في هذه الحرب وسائل التواصل و الصحف أم تنتصر الكتب؟ وماذا أفادت هذه الحرب؟
الحق أننا استفدنا كثيرًا من هذا النزاع، وتحققت به الرغبات المختلفة، فإن صعبت قراءة الكتب في أوقات الرياضة وحين الانتقال من مكان إلى مكان، في الطائرة أو القطار أو البواخر، فوسائل التواصل أوفى بتحقيق هذا الغرض، يسيرٌ ثمنها، سهل حملها- فهي معك في جوالك-، خفيفة موضوعاتها.
وإن صدعتنا الكتب أحيانًا بما فيها من ثرثرة ومن صفحات لا قيمة لها، ليست إلا تمهيدًا سقيمًا لفكرة قد تكون سقيمة، فقد نجد في المجلات المحترمة عصارة مركزة لأفكار قيمة هي خلاصة لشيء كثير ركزت في قول وجيز.
وإن أفرطت الكتب في الالتفات إلى الوراء بالبحث عما قبل التاريخ وما بعد التاريخ وثورات الأمم، وحروب الأعداء، وسيرة الملوك والخلفاء والأمراء، فالصحف كفيلة أن تلفتنا كثيرًا إلى الحاضر، وتضع يدنا على الواقع، وتقفنا على العالم الذي نعيش فيه، وتعرض علينا مشكلاتنا الحاضرة، وما عملته عقول المفكرين الأحياء في حلها.
وإن غلت الكتب في أكثر الأحيان في عرض النظريات العلمية والأدبية في شكل جاف وأسلوب بغيض، فوسائل التواصل والمجلات تأخذ على عاتقها أن تصوغ ذلك كله صياغة أدبية فيها كثير من الخيال الشعري، وفيها كثير من لباقة الأدب وطرافته.
والحق أن في وسائل التواصل والمجلات عيوب لا تصلحها إلا الكتب، ذلك أن الصحف والمجلات بحكم ديمقراطيتها وملامستها للجمهور ومراعاتها أكبرَ عدد ممكن من المثقفين، تضطر إلى تخفيف ما يتقطر من المعلومات إلى الشعب، فهي إن صلحت غذاءً للعقول البسيطة والعقول المثقفة ثقافةً واسعة غير عميقة، فلا تكفي وحدها للعقول القوية والعقول الشرهة والعقول التي تحترف هضم الأفكار وتتطلب دائمًا أفكارًا جديدة وأفكارًا عميقة، وتتطلب أن تلم بالشيء من جميع نواحيه، وبالنظريات في أطوارها المختلفة، وهي لا تجد ذلك إلا في الكتب.
خير للأمم أن تظل هذه الحرب قائمة أبدًا، وأن يكون النصر سجالًا أبدًا، وألا ينتصر أحدهما انتصارًا يبيد الآخر؛ فذلك أدعى أن يدخل أرباب وسائل التواصل والصحف والمجلات التحسينات على صفحاتهم و صحفهم ومجلاتهم دائمًا، وأن يتملق مؤلفو الكتب العقولَ بوضع مؤلفاتهم في شكل سائغ وأسلوب مقبول.
______________
مقتبس من كتاب "فيض الخاطر"
- التصنيف:
- المصدر: