الأندلس والقدس.. هل يعيد التاريخ نفسه؟
وإذ نحن نساهم بمقالتنا هذه، فقد رُمْنا الانزياح بها عن القراءة (التقليدية) لإشكالية القدس، وكذا تكسير نمطية العرض (المفصول) لها كما ذكرنا، وذلك وَفْقَ منهج تركيبي يجمع خلاصة التجربتين الأندلسية والمقدسية في إطار مقاربةٍ ومقارنةٍ، دون الغوص في الأحداث والت
مقدمة:
تستأثر الأندلس والقدس بمكانة خاصة ومتميزة في الوجدان والعاطفة الإسلامية تحديداً. ولأنهما كذلك، فقد طُرحت (تراجيديا) الأندلس و (دراما) القدس في ملفات وأعداد خاصة ضمن المجلات والدوريات العربية بمختلف تلاوينها واهتماماتها. وإذا كانت عادة الطرح تسير في منطق الانفصال و (الأحادية)، أي دراسة كل مادة بمعزل عن الأخرى؛ فهل حدث إذن أن تساءلنا حيناً عن مدى إمكانية تعالق القضيتين فعلاً؛ فبين الأندلس والقدس تقاطعات على أكثر من صعيد (الموقع الجغرافي المغري، والحضور المتميز في الذاكرة العربية، ثم - هو الأهم - الوضع المهترئ المهزوز الذي عاشته الأندلس، وعيش القدس اليوم على الأمل).
لقد كتب كثير من الكتاب - وما يزالون - حول القدس، في محاولة جادة ومستميتة لاستثارة الانتباه واستنهاض الهمم حيال الأخطار (الشاذة) التي تتهدد - يوماً بعد يوم - القدس راسمة حاضراً مؤلماً ومستقبلاً قاتماً.
وإذ نحن نساهم بمقالتنا هذه، فقد رُمْنا الانزياح بها عن القراءة (التقليدية) لإشكالية القدس، وكذا تكسير نمطية العرض (المفصول) لها كما ذكرنا، وذلك وَفْقَ منهج تركيبي يجمع خلاصة التجربتين الأندلسية والمقدسية في إطار مقاربةٍ ومقارنةٍ، دون الغوص في الأحداث والتفاصيل التاريخية التي تعج بها كتب التاريخ.
قد يسائلنا بعض القرَّاء: لِمَ قسوة العنوان، ألا يحمل معاني التشاؤمية والانهزامية؟ نجيب بالنفي، ونقول: إن العنوان لا يعدو تعبيراً صريحاً عن الواقع والمآل (المنتظر) ما لم يتنبه عالمنا العربي لحتمية الفعل والتصرف قبل فوات الأوان، فالخوف أحياناً يدفعنا لإحقاق المستحيل. وقد يتساءل آخر مستفهماً: أية علاقة لحدث تاريخي (ماضوي) لما يجري في القدس؟ أَوَلَيْسَ هذا زمن حقوق الإنسان، والشرعية الدولية؟ لكن سرعان ما يتبدد شبح السؤال والغموض، ويتجلى وضوح المقاربة التي نحن بصددها، حينما نطرح السؤال التالي: كيف انتهت الأندلس، هل سقطت دفعة واحدة؟ وكيف قوبلت استغاثات ونداءات الأندلسيين من لدن العالم الإسلامي آنذاك؟ وماذا لو عكسنا المعادلة بتحييدنا الأندلس وإحلال القدس مع تغيير طفيف في بنية الأسئلة؟
الأندلس بين الانقسام الداخلي والتهديد الخارجي:
بعد اندثار الدولة الأموية عاشت الأندلس على إيقاع ملوك الطوائف بدايةَ نهايتها. فلم نعد نتحدث عن الأندلس كتلة واحدة متماسكةً ومتجانسةَ الأهداف والمصالح؛ بل حل ما يمكن تسميته بـ (بالمدن الدول - polis) المستقلة والمتنابذة فيما بينها، فقد أصبحت التجزئة أمراً واقعاً ميَّز مرحلة ملوك الطوائف. هذا في الوقت الذي عقدت فيه الـمَلَكية الكاثوليكيـة العـزم على ضم الإمارات الأندلسية تباعاً وسحقها، من خلال تسريع زمن (حروب الاسترداد) وتشديد الحصار على حكامها. وإذا كانت الضرورة التاريخية تحتِّم على ملوك الطوائف الاتحاد والتكتل لصد العدو (الكافر) المشترك، فإن الأنانية واستحكام الأطماع الشخصية والعداوة المضمرة فيما بينهم، حملتهم على التحالف مع ذاك العدو، والتنازل له عن قلاع وحصون مع الالتزام بدفع (الجزية)، بل تمادت زوجات وأبناء بعضهم إلى الارتماء في أحضان ملوك قشتالة والتسمي بأسماء صليبية[1].
من ناحية أخرى، لم تكن العمليات الجهادية المغربية (المرابطية والموحدية ثم المرينية) بقادرة على كبت المد الإيبيري على الديار الأندلسية، نظراً لطابعها الدفاعي والظرفي، على أنها سمحت للأندلس بالاستمرار لبرهة من الزمن، إلى أن دبَّ الوهن في الكيان المغربي على العهد المريني والوطاسي، فتداعت على إثره الدويلات الأندلسية، في حين دخلت غرناطة في حالة احتضارٍ سلامتُها معقودة ومتوقفة على المساعدة والاستغاثة بالعالم الإسلامي التي لم تأتِيها ولم تلبَّ أبداً، فكان الاستسلام والإفراغ أمراً حتمياً.
هذه النهاية المأساوية التي آلت إليها غرناطة، ونجاح (حرب الاسترداد) في تحقيق أهدافها (الإستراتيجية)، تتحمل فيها الذات جانباً من المسؤولية. فقد كان لتدخُّل النساء في السياسة دور رئيسي في جملةٍ من الأحداث الخطيرة التي عصفت بغرناطة. حيث قاد التنافس والصراع بين (عائشة الحرة) و (ثريا)، إلى انشطار المجتمع إلى معسكرين متضادين: طرف يناصر (عائشة)، وحزب آخر يصطف إلى جانب (ثريا). لكن (عائشة الحرة) نجحت في التغلب على خصمها، وتمكنت من تنصيب ابنها (أبو عبد الله الصغير) ملكاً على غرناطة.
وعندما خرج (أبو عبد الله الصغير) من الأسر، ألفى عمه (الزغل) متولياً كرسي الملك، فشن عليه حرباً بتأييد من النصارى، أجبرت الغرناطيين مرة أخرى على إعلان مواقفهم من الأطراف المتصارعة، فعاد الانقسام مجدداً ليفتت وحدة وتماسك المجتمع، وهو ما تسبب في إنهاك قوة غرناطة واستنزاف قوتها.
وبالفعل، فقد استغل التحالف الكاثوليكي هذا الحال، وزحف على العديد من القلاع والحصون، وضرب حصاراً على غرناطة، لم يجد معه (أبو عبد الله الصغير) بُدّاً من الاستسلام وتسليم مفاتيح المدينة للكاثوليك.
الأندلسيون وموجة التنصير والمعاناة:
على الرغم من معاهدة الاستسلام التي بموجبها سلَّم أبو عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة عام 1492م، وهي آخر معقل إسلامي بجزيرة إيبيريا، والتي تضمنت جملة من البنود القاضية بتمتيع المسلمين بحقوقهم الكاملة كما في عهد الحكم الإسلامي بها، بَيْد أنه ما كاد يمر وقت قصير حتى أخلَّت إسبانيا بتعهداتها المذكورة، وانطلقت حملات التنصير والإدماج القسريين في الدين والثقافة الإسبانية الكاثوليكية.
في هذا السياق تأتي محاكم التفتيش لملاحقة المسلمين وفصلهم عن عقيدتهم وثقافتهم الإسلامية، منتهجةً في ذلك سبيل الإكراه والقهر والاضطهاد وحظر اللغة العربية. يروي لنا المؤرخ المجهول تلك المعاناة بقوله: «... ثم بعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليه... فدخلوا في دينه كرهاً وصارت الأندلس كلها نصرانية ولم يبقَ من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله جهراً... وجعلت النواقيسَ في صوامعها بعد الآذان وفي مساجدها الصور والصلبان... فكم فيها من عين باكية وكم فيها من قلب حزين وكم فيها من الضعفاء والمعدومين... قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً مدراراً، وينظرون أولادَهم وبناتِهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير ويشربون الخمر... فيا لها من فاجعة ما أمرَّها، ومصيبة ما أعظمها وأضرها، وطامة ما أكبرها»[2].
القدس ودراما التهويد الممنهج:
في أفق تنزيل الرواية التاريخية المزعومة، وضعت السلطات الإسرائيلية خطة تهويد واسعة للقدس، يمكننا إجمالها في ثلاثة مشاريع كبرى:
الأولى: مشاريع ذات بُعْد عمراني تعميري: ينطلق هذا المشروع بمصادرة منازل وأراضي الساكنة المقدسية، وتهديم المنازل بدعوى عدم وجود رُخَص للبناء، وهي رخصٌ تعلم إسرائيل - قبلاً - أنها يصعب بل يستحيل تحصيلها؛ نظراً لطبيعة المسطرة الإسرائيلية الصعبة والمعقدة في هذا الشأن[3]. وهو ما يدفع بالمقدسيين - بشكل طبيعي - إلى هجرة داخلية أو خارجية، فيصبح المجال فسيحاً للسلطة الإسرائيلية لتشييد المزيد من المستوطنات وتمددها المخيف على حساب الأحياء القديمة.
الثانية: مشاريع ذات بُعد ديموغرافي: سعياً من دولة الصهاينة لتطـويق القدس، أقامت جداراً يعزل القدس عن محيطها الفلسطيني، ويمزق العلاقات العائلية والاجتماعية لساكنة القدس. إن تحقيق غلبة ديموغرافية يهودية بالقدس، حمل السلطات الإسرائيلية على تشجيع حركة الهجرة لليهود نحو السكن في القدس، وذلك بتخصيص امتيازات وتسهيلات مغرية لهم، إلى جانب نقل الثقل الاقتصادي إلى القدس الغربية، وزيادة الضغط الضريبي على المتاجر والمصانع في الشطر الشرقي للقدس. ناهيك عن خطة التهجير (اللطيفة) للمقدسيين التي أعدتها إسرائيل بناء على فقراتٍ وموادَّ قانونية، تُسْتغَل بشكل ذكي لسحب بطاقة الإقامة أو منحها[4]، وذلك في إطار شرعنة ممارساتها (انتهاكاتها) وتغليفها بغلاف قانوني.
الثالثة: مشاريع ذات بعد حضاري: لم تسلم مقدسات المسلمين ومعالمهم الحضارية بالقدس من عملية التهويد الممنهج؛ فالمصادرة والمحو والاعتداء والتدنيس ينال كل أثر أو مؤشر دال على الهوية والثقافة الإسلامية[5]، التي ترنو إسرائيل إلى طمسها وإتلافها أملاً لفصل الذات عن مقوماتها الهوياتية. في مقابل ذلك، تجري أبحاث وحفريات صهيونية تجتهد في العثور على بقايا وآثار تسند الادعاءات والمزاعم التاريخية الإسرائيلية. كما يتم في الاتجاه ذاته، استبدال أسماء الأماكن والأحياء والشوارع بأخرى عبرية.
ضياع الأندلس وتداعي القدس نحو بناء الصورة:
لعل نظرة سريعة على حاضر القدس وواقعها وموقف عالمنا العربي من القضية، كافية لإعادة تحيين واسترجاع حلقات ضياع الأندلس، ومساءلة الذات العربية عن حقيقة إدراكنا لسيناريو الضياع وقراءتنا المتفحصة والواعية لفصوله، التي تكاد تتماهى مع المشهد المأساوي الذي ينذر بفقدان فردوس آخر أَلَا وهو (فردوس القدس). طبعاً في الحالتين كلتيهما (الأندلس والقدس) يصنَّف العدو على درجة عالية من القوة والحزم والإصرار و (الشوفينية)، والاختلاف كامن هنا في الفرق بين الطرف الأندلسي - ونقصد هنا النخبة السياسية الحاكمة وليس الشعب - المتخاذل والخَنُوع والمستسلم لرغبات وأطماع الأجنبي، وبين الجانب المقدسي المدافع باستماتة وبسالة وإيمان وطني يندر قرينه عن قضية أرض وهوية، في ظل عدم تكافؤٍ صارخٍ في موازين القوى.
من المعلوم أن القضية الفلسطينية تعرضت لنكبات ونكسات، ثم لحملات تطهير وتنكيل وتدمير منذ (الوعد المشؤوم) عام 1917م؛ الذي (شرعن) الطموحات والحلم الصهيوني في إنشاء وطن قومي لليهود بالديار الفلسطينية. وإذا كان هذا الحلم قد صار واقعاً، فإن إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وتطبيع العرب مع إسرائيل، يعدُّ تحولاً وتطوراً خطيراً يهدد مستقبل الوجود الإسلامي بالمدينة المقدسة، التي لطالما شكلت على مدار التاريخ الإسلامي رمزاً دينياً حافلاً بالمعاني والدلالات الراسخة في ذاكرة المسلمين كافة.
إن تذكيرنا بضياع الأندلس، ومحاولتنا الدمج بين هذه التجربة الثابتة في المخيال الإسلامي، ونظيرتها المقدسية الراهنة المتهاوية، في هذه الورقة، تعد خطوة طريفة نحاول من خلالها تذكير ضمير العالم الإسلامي بحساسية اللحظة التي تشهدها القدس، والتحذير من مغبة التهوين من المسألة، حتى لا نكرر تجربةً أمرَّ فنضيع القدس، ثم نتباكى بعدها على فردوس ندعوه هو الآخر «الفردوس المفقود»!
في الختام:
عموماً يمكن القول: إن مسلسل (ضياع القدس) قد عُرضت أكثرُ من نصف حلقاته الدراماتيكية وشاهدناها على شاشاتنا العربية، كما سبق أن أخبرنا التاريخ عن تلاحق سقوط الإمارات الأندلسية متتالية. فليس في الأمر إذن، سوى اختلاف في الجغرافيا والأدوار والأزمنة مع الاحتفاظ بالسيناريو ذاته؛ فمن جهة الأندلس هناك القدس، ومن جهة الكاثوليكية ثمة الصهيونية. وهكذا نستمر في مشاهدة ومتابعة المسلسل منتظرين الحلقة الأخيرة منه، لنختار له اسماً جميلاً على شاكلة «الفردوس المفقود»!
[1] الدعيج (أحمد)، أركستهم الذنوب، مجلة المعرفة، العدد 68، فبراير 2001م، ص30.
[2] رزوق (محمد)، الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16 - 17، كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، الطبعة الثالثة، 1998م، ص 56 - 57.
[3] صالح (محسن)، معاناة القدس والمقدسات تحت الاحتلال الإسرائيلي، سلسلة أولست إنساناً 7، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات- بيروت، ص 97.
[4] ينظر المرجع نفسه.
[5] لمزيد من التفاصيل والصور والشواهد حول الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في حق الحضارة الإسلامية والإنسانية عموماً، يراجع المرجع نفسه باعتباره يركز على هذا البعد.
_________________________________________________
الكاتب: د. محمد جباري
- التصنيف:
- المصدر: