سر من أسرار التكرار في القرآن
فالهدى؛ مثل: أن يُؤمر بسلوك الطريق إلى الله؛ كما يُؤمر قاصد الحج بسلوك طريق مكة مع دليل يوصله، والبيِّنات: ما يدل، ويُبيِّن أن ذلك هو الطريق، وأن سالكه سالك للطريق لا ضال، والفرقان: أن يُفرِّق بين ذاك الطريق وغيره...
سألت نفسي مرارًا لماذا ذكر الله الهدى مرتين في هذه الآية؟ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
قال: {هُدًى لِلنَّاسِ}، ثم قال: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}، لماذا لم يقل سبحانه: هدى للناس وفرقانًا؟
أجابني وشفى صدري ابنُ عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير: وقَوْلُهُ: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} حالانِ مِنَ القُرْآنِ إشارَةً بِهِما إلى وجْهِ تَفْضِيلِ الشَّهْرِ بِسَبَبِ ما نَزَلَ فِيهِ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ.
والمُرادُ بِالهُدى الأوَّلِ: ما في القُرْآنِ مِنَ الإرْشادِ إلى المَصالِحِ العامَّةِ والخاصَّةِ الَّتِي لا تُنافِي العامَّةَ، وبِالبَيِّناتِ مِنَ الهُدى: ما في القُرْآنِ مِنَ الِاسْتِدْلالِ عَلى الهُدى الخَفِيِّ الَّذِي يُنْكِرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الناسِ؛ مِثْلَ: أدِلَّةِ التَّوْحِيدِ، وصِدْقِ الرَّسُولِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحُجَجِ القُرْآنِيَّةِ، والفُرْقانُ مَصْدَرُ فَرَقَ، وقَدْ شاعَ في الفَرْقِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ؛ أيْ: إعْلانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الحَقِّ الَّذِي جاءَهم مِنَ اللَّهِ، وبَيْنَ الباطِلِ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الإسْلامِ، فالمُرادُ بِالهُدى الأوَّلِ: ضَرْبٌ مِنَ الهُدى غَيْرُ المُرادِ مِنَ الهُدى الثَّانِي، فَلا تِكْرارَ.
ثم وجدتُ كلامًا نفيسًا لابن تيمية في كتاب النبوات (641-642)، قال رحمه الله: ففي الهدى: بيان المعبود، وما يعبد به، والبينات فيها بيان الأدلة والبراهين على ذلك، فليس ما يخبر به ويأمر به من الهدى قولًا مجرَّدًا عن دليله؛ ليؤخذ تقليدًا واتِّباعًا للظنِّ؛ بل هو مبين بالآيات البيِّنات؛ وهي الأدلة اليقينية، والبراهين القطعية.
وكان عند أهل الكتاب من البيِّنات الدالَّة على نبوَّة محمد، وصحة ما جاء به أمور متعددة لبشارات كتبهم، وغير ذلك، فكانوا يكتمونه، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]؛ فإنَّه كان عندهم شهادة من الله، تشهد بما جاء به محمد، وبمثله فكتموها.
وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}؛ فأنزله هاديًا للنَّاس، وبيِّنات من الهدى والفرقان؛ فهو يهدي النَّاس إلى صراطٍ مستقيم، يهديهم إلى صراط العزيز الحميد، الذي له ما في السموات وما في الأرض، بما فيه من الخبر والأمر، وهو بيِّنات دلالات، وبراهين من الهدى؛ من الأدلة الهادية المبيِّنة للحق، ومن الفرقان المفرِّق بين الحق والباطل، والخير والشر، والصدق والكذب، والمأمور والمحظور، والحلال والحرام؛ وذلك أن الدليل لا يتم إلا بالجواب عن المعارض، فالأدلة تشتبه كثيرًا بما يعارضها، فلا بُدَّ من الفرق بين الدليل الدال على الحقِّ، وبين ما عارضه؛ ليتبين أن الذي عارضه باطل.
فالدليل يحصل به الهدى وبيان الحق؛ لكن لا بد مع ذلك من الفرقان؛ وهو الفرق بين ذلك الدليل، وبين ما عارضه، والفرق بين خبر الرب، والخبر الذي يخالفه، فالفرقان يحصل به التمييز بين المشتبهات، ومن لم يحصل له الفرقان كان في اشتباه وحيرة.
الهدى التام لا يكون إلا مع الفرقان؛ فلهذا قال أولًا: {هُدًى لِلنَّاسِ}، ثم قال: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}؛ فالبينات: الأدلة على ما تقدَّم من الهدى؛ وهي بينات من الهدى، الذي هو دليل على أن الأول هدى، ومن الفرقان الذي يُفرِّق بين البيِّنات والشبهات، والحجج الصحيحة والفاسدة.
فالهدى؛ مثل: أن يُؤمر بسلوك الطريق إلى الله؛ كما يُؤمر قاصد الحج بسلوك طريق مكة مع دليل يوصله، والبيِّنات: ما يدل، ويُبيِّن أن ذلك هو الطريق، وأن سالكه سالك للطريق لا ضال، والفرقان: أن يُفرِّق بين ذاك الطريق وغيره، وبين الدليل الذي يسلكه، ويدل الناس عليه، وبين غيرهم ممن يدَّعي الدلالة، وهو جاهل مضل.
____________________________________________________
الكاتب: د. محمد أحمد صبري النبتيتي
- التصنيف: