مما لا يسع الأصولي جهله في مسائل الاعتقاد
فإن مسائلَ أصول الفقه قد بُني كثيرٌ منها على مسائل عقدية، تستوجب من أهل التخصص الوقوف عليها...
- التصنيفات: الملل والنحل والفرق والمذاهب - الفرق والجماعات الإسلامية -
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيِّه ومُصْطفاه، وبعد:
فإن مسائلَ أصول الفقه قد بُني كثيرٌ منها على مسائل عقدية، تستوجب من أهل التخصص الوقوف عليها، وثمَّة أقوال لشيخ الإسلام ابن تيميَّة تُبيِّن هذا الأمر، أحببتُ إظهارَ شيءٍ منها؛ لما لقوله من متانة وقَبول، فأقول:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ المتكلمين: «صنفوا في أصول الفقه- وهو علم مشترك بين الفقهاء والمتكلمين- فبَنَوه على أصولهم الفاسدة»[1].
وقال رحمه الله: «وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصوليَّة، وخلط بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئًا من أصول الأشعريَّة والسالميَّة وغير ذلك، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئًا من أصول المعتزلة والكرَّاميَّة والكلابيَّة، ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة»[2].
وقد كان خبيرًا بأحوال الفرق الكلاميَّة، وله مناظرات عديدة مع أصحابها، وهو القائل في إحدى مناظراته: «أنا أعلم كل بدعة حدثَتْ في الإسلام، وأوَّل مَن ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها»[3].
وفي مسائل أصول الفقه كان غالب الخلاف عند المتكلمين بين الأشاعرة والمعتزلة، وهم يتبعون فرقًا ومذاهب شتى في الاعتقاد، والوقوف عليها مما يعين الأصولي على تصوُّر الخلاف القائم في أصول الفقه.
وقد أجمل شيخ الإسلام بعض أصولهم العقدية بكلام نفيس لا يستغني عنه أصولي، أحببْتُ الوقوف معه في هذا المقال، حيث قال: «والأشعرية: الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام، جبرية في باب القدر، وأما في الصفات فليسوا جهمية محضة، بل فيهم نوع من التجهُّم.
والمعتزلة: وعيدية في باب الأسماء والأحكام، قدرية في باب القدر، جهمية محضة»[4].
وتفصيل ما سبق في الأمور الآتية:
الأمر الأول: باب الأسماء والأحكام:
ذكر الشيخ أن الأغلب على الأشاعرة الإرجاء في باب الأسماء والأحكام، والوعيدية (الخوارج) [5] على المعتزلة.
وبيان ذلك: أن الناس تنازعوا قديمًا في الأسماء والأحكام، والمراد بالأسماء: أسماء الدين؛ مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق، والمراد بالأحكام: أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة؛ أي: أحكام أصحاب هذه الأسماء[6].
ومذهب أهل الحق وسط في ذلك، يقول شيخ الإسلام: «وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار؛ بل يخرج منها مَنْ كان في قلبه مثقالُ حَبَّةٍ من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادَّخَر شفاعته لأهل الكبائر من أمته»[7]؛ ا هـ.
أثره في أصول الفقه:
تكلم الأصوليُّون عن مسألة تحقق لحوق الوعيد وحكم الخلف ضمن بحثهم عن العموم، فحكوا عن الأشعري القول بالوقف في صيغ العموم.
قال شيخ الإسلام: ((فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم، وقالوا: ليس في اللغة عموم وهم الواقفية في العموم من المرجئة، وبعض الأشعرية، والشيعية، وإنما التزموا ذلك لئلا يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد.
وقالت المقتصدة: بل العموم صحيح، والصيغ صيغ عموم؛ لكن العام يقبل التخصيص؛ وهذا مذهب جميع الخلائق من الأولين والآخرين، إلا هذه الشرذمة قالوا: فمن عفي عنه كان مستثنى من العموم)) [8].
وقال الزركشي: (ومأخذ قول الوقف من أصله أن الأشعري لما تكلم مع المعتزلة في عمومات الوعيد الواردة في الكتاب والسنة، كقوله: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] ونحوه، ومع المرجئة في عموم الوعد، نفى أن تكون هذه الصيغ موضوعة للعموم، وتوقَّف فيها، وتَبِعَه جمهور أصحابه))[9].
الأمر الثاني: باب القدر:
ذكر شيخ الإسلام أن الأشاعرة جبرية في باب القدر، والمعتزلة قدرية فيه.
وبيانه: كما يقوله الشيخ عن مذهب أهل السنة والجماعة: «وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله، الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيُعطِّلون الأمر والنهي والثواب والعقاب؛ فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد، ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد، ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله، فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله» [10].
أثره في أصول الفقه:
اختلف الأصوليون تبعًا للخلاف العقدي المتعلق بالقدر: في قدرة العبد واستطاعته [11]، وفي مسألة تأثير الأسباب في مسبباتها، وفي خلق أفعال العباد، ونتج خلاف أصولي في مسائل أصولية عن كل واحدة منها.
الأمر الثالث: باب الصفات:
ذكر شيخ الإسلام أن الأشاعرة في باب الصفات ليسوا جهمية محضة، وأما المعتزلة فإنهم جهمية محضة.
وبيانه: أن الأشاعرة يثبتون بعض الصفات، فهم ليسوا نفاة للصفات كلها كالجهمية، بخلاف المعتزلة الذين ينفون جميع الصفات، فهم بذلك جهمية محضة؛ لذا كان كل معتزلي جهمي، وليس كل جهمي معتزليًّا [12].
أما أهل السنة والجماعة، فقال: «فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت اللهُ به نفسَه؛ حتى يُشبِّهوه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال، ويُشبِّهونه بالمخلوقات.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل»[13].
أثره في أصول الفقه:
ثمَّة صفات لله عز وجل تأثرت مسائل أصول الفقه بالخلاف العقدي، منها: صفة الكلام، وصفة الحكمة، وصفة الإرادة.
وتفصيل بناء المسائل الأصوليَّة على المسائل العقدية مما يطول ذكره هنا، وقد ذكرت شيئًا منه في بحث (بناء مسائل أصول الفقه على المسائل العقدية والكلامية عند شيخ الإسلام ابن تيميَّة)، منشور في قناتي على التلجرام على الرابط:(https://t.me/alhattab_iu/98)).
وباقي المسائل مذكورة في كتابي (المعتقد وأثره على مسائل أصول الفقه)، أسأل الله أن يُتمَّمَ إخراجه.
وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الاستقامة (1/50).
[2] منهاج السنة (5/261).
[3] مجموع الفتاوى (3/ 184).
[4] مجموع الفتاوى (6/55).
[5] سموا بالوعيديَّة؛ لأنهم غلَّبوا جانب الوعيد، وقالوا: أي كبيرة يفعلها الإنسان ولم يتُبْ منها؛ فإنه مخلَّد في النار بها.
[6] ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 38).
[7] مجموع الفتاوى (3/373- 374).
[8] مجموع الفتاوى (12/483).
[9] البحر المحيط للزركشي (4/32).
[10] مجموع الفتاوى (3/373- 374).
[11] والقدرة يطلق عليها الاستطاعة؛ انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/293).
[12] انظر: منهاج السنة لابن تيمية (1/344).
[13] مجموع الفتاوى (3/373- 374).
_______________________________________________________
الكاتب: أ. د. عبدالرحمن بن علي الحطاب