{من يعجبك قوله}

منذ 2022-08-31

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ....}

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 204 - 207].

 

{وَمِنَ النَّاسِ} "من" للتبعيض، بمعنى «بعض الناس» كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8].

 

{مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} يروقك وتستحسنه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} القول الذي يعجب حتى في الدين؛ لكن لا ينتفع به في الآخرة؛ إنما ينتفع به في الدنيا فقط.

 

والمراد من «القول» هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين؛ لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه، وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة؛ إذ لا غرض في ذلك هنا؛ لأن المقصود ما يضاد قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} إلى آخره.

 

وهذه الآية وردت في شأن المنافقين؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4] من حسنه، وفصاحته؛ ولكنهم أهل غرور، وخداع، وكذب، فإن آية المنافق ثلاث؛ منها: «إذا حدَّث كذب».

 

{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}: يقرن حسن قوله وظاهر تودُّده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابقٌ لما في لفظه، ومعنى إشهاد الله: حلفه بأن الله يعلم أنه لصادق، كأن يقول: يعلم الله أني مؤمن، وأني أحب الله ورسوله، ويشهد الله أني كذا.

 

{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}: أشد المخاصمين لذلاقة لسانه، وفي الآية الإشارة إلى ذمِّ الجدل والخصام؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}؛ لأن الخصومات في الغالب لا يكون فيها بركة؛ وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أبْغَضُ الرجالِ إلى اللهِ الألدُّ الخَصِم»؛ أي: الإنسان المخاصم المجادل بالباطل ليدحض به الحق؛ وما من إنسان في الغالب أُعطي الجدل إلا حرم بركة العلم؛ لأن غالب من أوتي الجدل يريد بذلك نصرة قوله فقط؛ وبذلك يحرم بركة العلم؛ أما من أراد الحق فإن الحق سهل قريب لا يحتاج إلى مجادلات كبيرة لأنه واضح؛ ولذلك تجد أهل البدع الذين يُخاصمون في بدعهم، علومهم ناقصة البركة لا خير فيها، وتجد أنهم يخاصمون ويجادلون، وينتهون إلى لا شيء، لا ينتهون إلى الحق؛ لأنهم لم يقصدوا إلا أن ينصروا ما هم عليه؛ فكل إنسان جادل من أجل أن ينتصر قوله فإن الغالب أنه لا يُوفَّق، ولا يجد بركة العلم؛ وأما من جادل ليصل إلى العلم، ولإثبات الحق، وإبطال الباطل، فإن هذا مأمور به؛ لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

 

{وَإِذَا تَوَلَّى} حقيقة التولي الانصراف بالبدن، والمعنى: رجع وانصرف، أو كانت له ولاية {سَعَى فِي الْأَرْضِ} تأكيد لمدلول {سَعَى} لرفع توهُّم المجاز من أن يراد بالسعي العمل والاكتساب، فأريد التنصيص على أن هذا السعي هو السير في الأرض للفساد، وهو الغارة والتلصُّص لغير إعلاء كلمة الله؛ ولذلك قال بعده: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} فاللام للتعليل؛ لأن الإفساد مقصود لهذا الساعي.

 

{وَيُهْلِكَ} يتلف {الْحَرْثَ} الزرع {وَالنَّسْلَ} الحيوان، والإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل؛ ولكنه خصَّهما بالذكر؛ لأنهما أعظمُ ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا، فكان إفسادهما غاية الإفساد {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.

 

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ}؛ أي: وإذا وعظَه واعِظٌ بما يقتضي تذكيره بتقوى الله تعالى {أَخَذَتْهُ} احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ لها كما يأخذ الشيء باليد {الْعِزَّةُ} القوة والحمية والمنعة، والعزة صفة يرى صاحبها أنه لا يقدر عليه غيرُه، ولا يُعارض في كلامه لأجل مكانته في قومه واعتزازه بقوتهم.

 

فـ «أل» في "العزة" للعهد؛ أي: العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول اللوم أو التغيير عليه؛ لأن العزة تقتضي معنى المنعة، فأخذ العزة له كناية عن عدم إصغائه لنصح الناصحين.

 

{بِالْإِثْمِ} تحتمل الباء أن تكون للمصاحبة؛ أي: أخذته العزة الملابسة للإثم، فمنعته من قبول الموعظة، وأبقته حليف الإثم الذي اعتاده، ويُحتمَل أن تكون الباء سببية؛ والمعنى: أن إثمه السابق كان سببًا لأخذ العزة له، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى.

 

{فَحَسْبُهُ} كافيه جزاءً وإذلالًا {جَهَنَّمُ} مشتقة من الجهم وهو الكراهية، وفيه استعظام لما حلَّ به من العذاب ﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ الفراش، وجعل ما أعدَّ لهم مهادًا على سبيل الهزء بهم؛ إذ المهاد: هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم، وحذف هنا المخصوص بالذم؛ للعلم به؛ إذ هو متقدِّم والتقدير: ولبئس المهاد جهنم.

 

وفي قوله: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} نوعٌ من البديع يُسمَّى التتميم، وهو إرداف الكلام بكلمة يرفع عنه اللبس، وتُقرِّبه للفهم؛ كقوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، وذلك أن العزة محمودة ومذمومة، فالمحمودة طاعة الله، كما قال تعالى: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]، فلما قال: بالإثم، اتَّضَح المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها.

 

قيل: إن المنافق الذي تضمنت الآيات الحديث عنه هو الأخنس بن شريق، واسمه: «أُبَيّ»، وكان حُلْوَ اللسان والمنظر، يجالس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُظهِر حُبَّه، والإسلامَ، ويحلف على ذلك، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْنيه ولا يعلم ما أضمر، وكان مولى لبني زهرة من قريش، وهم أخوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يُظهِر المودَّةَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينضم إلى المشركين في واقعة بدر بل خنس- أي: تأخَّر- عن الخروج معهم إلى بدر، وكان له ثلثمائة من بني زهرة أحلافه، فصدَّهم عن الانضمام إلى المشركين، فقيل: إنه كان يُظهِر الإسلام وهو منافق، وقال ابن عطية: لم يثبت أنه أسلم قَطُّ؛ ولكن كان يُظهِر الودَّ للرسول، فلما انقضت وقعة بدر، قيل: إنه حرق زرعًا للمسلمين وقتل حميرًا لهم؛ فنزلت فيه هذه الآية.

 

وقيل: بل كانت بينه وبين قومه ثقيف عداوة، فبيتهم ليلًا، فأحرق زرعهم وقتل مواشيهم؛ فنزلت فيه الآية، وعلى هذا فتقريعه؛ لأنه غدرهم وأفسد، ففعله ينمُّ عن خبث طويَّة لا تتطابق مع ما يظهره من الخير ولين القول؛ إذ من شأن أخلاق المرء أن تتماثل وتتظاهر، فالله لا يرضى بإضرار عبيده ولو كفارًا ضرًّا لا يجر إلى نفعهم؛ لأنهم لم يغزهم حملًا لهم على الإيمان بل إفسادًا وإتلافًا؛ ولذلك قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.

 

قال ابن مسعود: لا ينبغي للرجل أن يغضب إذا قيل له: اتَّقِ الله، أو يقول: أو لِمثْلي يقال هذا؟ وقيل لعمر: اتق الله، فوضع خدَّه على الأرض تواضُعًا، وقيل: سجد، وقال: هذا مقدرتي.

 

وتردَّد يهودي إلى باب هارون الرشيد سنة فلم يقضِ له حاجة، فتَحَيَّل حتى وقف بين يديه، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين، فنزل هارون عن دابته، وخرَّ ساجدًا، وقضى حاجته، فقيل له في ذلك، فقال: تذكرت قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206].

 

ولما ذكر الله حال المنافقين الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا وهم ألدُّ الخصام، والذين إذا تولَّوا سَعَوا في الأرض فسادًا ليُهلِكوا الحرث والنسل- والله لا يحب الفساد- ذكر حال قوم على ضدهم؛ وهكذا القرآن مثاني تثَنَّى فيه الأمور؛ فيُؤتى بذكر الجنة مع النار وبذِكْر المتقين مع الفُجَّار؛ لأجل أن يبقى الإنسان في روضة متنوعة؛ ثم ليبقى الإنسان بين الخوف والرجاء، لا يغلب عليه الخوف فيقنط من رحمة الله، ولا الرجاء فيأمن مكر الله، فإذا سمع ذكر النار ووعيدها، وعقوبتها أوجب له ذلك الخوف، وإذا سمع ذكر الجنة ونعيمها وثوابها أوجب له ذلك الرجاء؛ فترتيب القرآن من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى، وهو الموافق لإصلاح القلوب؛ ولهذا نرى من الخطأ الفادح أن يؤلف أحد القرآن مرتبًا على الأبواب والمسائل كما صنعه بعض الناس؛ فإن هذا مخالف لنَظْم القرآن والبلاغة وعمل السلف؛ فالقرآن ليس كتاب فقه؛ ولكنه كتاب تربية وتهذيب للأخلاق؛ فلا ترتيب أحسن من ترتيب الله؛ ولهذا كان ترتيب الآيات توقيفيًّا لا مجال للاجتهاد فيه؛ وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزلت الآية قال: «ضَعُوا هذه الآيةَ في مكانِ كذا من سورةِ كذا».

 

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ}؛ أي: يبيعها، فكلمة يشري في اللغة تعني يبيع، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، بخلاف كلمة يشتري، كما أن يبتاع يعني يشتري بخلاف كلمة يبيع، وهذا على الأغلب، ومثله قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]؛ أي: يبيعون.

 

واستعمل يَشْرِي هنا في البذل مجازًا؛ والمعنى: ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله؛ أي: هلاكًا في نصر الدين، وهذا أعلى درجات الإيمان؛ لأن النفس أغلى ما عند الإنسان.

 

{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} إشارة إلى الإخلاص، وإشارة أيضًا إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء، وهو رضاه تعالى؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

 

وفي الحديث الصحيح، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى، حين يسألهم: هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا، كيف لا نرضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك؟ فيقول: ولكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: يا ربنا، وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده.

 

وقيل: إن الرجل المؤمن الذي تضمَّنت الحديث عنه الآية هو صهيب بن سنان الرومي- أبو يحيى- فعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: أَقْبَلَ صُهَيْبٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُهَاجِرًا إِلَى مَدِينَةِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم فَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَانْتَثَلَ مَا فِي كِنَانَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكمْ رَجُلًا، وَايْمُ الله لا تَصِلُونَ إليَّ حَتَّى أَرْمِي بِكُلِّ سَهْمٍ مَعِي فِي كِنَانَتِي ثُمَّ أَضْرِبُ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى مَالِي وقُنْيَتي بِمَكَّةَ وَخَلَّيْتُمْ سَبِيلِي، قَالُوا: نَعَمْ، فَفَعَلَ.

 

وفي رواية: فقالوا: لا نتركك تخرج من عندنا غنيًّا وقد جئتنا صعلوكًا؛ ولكن دلَّنا على مالك ونُخلي عنك، وعاهدوه على ذلك فدلَّهم على ماله، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم الْمَدِينَةَ، قَالَ: «رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى»، قَالَ: وَنَزَلَتْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.

 

والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأخنس مثل سوء لكل من يتَّصِف بصفاته، وصهيب مثل الخير والكمال لكل من يتَّصِف بصفاته.

 

{وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} رحيم بهم، والرأفة أبلغ من الرحمة، فالرأفة هي أرق الرحمة، وألطفها، وهي كناية عن لازمها؛ وهو إيتاء الخيرات كالرحمة، حيث كلَّفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء.

 

والعباد إن كان عامًّا، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم، وتيسير أرزاقهم لهم، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته، ورفع درجاتهم في الجنة، وإن كان خاصًّا- وهو الأظهر- لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} وكان ذلك خاصًّا بأولئك الكفار، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب، وجزيل المآب، ودلَّ على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك، فصار ذلك كنايةً عن إحسان الله إليهم؛ لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفِدْ ما أفاده لفظ الرأفة؛ ولذلك كانت الكناية أبلغ، ويكون إذ ذاك في لفظ: ﴿ الْعِبَادِ ﴾ التفات؛ إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر، فلو جرى على نَظْم الكلام السابق لكان: "والله رؤوف به أو بهم"، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان:

أحدهما: أن لفظ: العباد، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص؛ كقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].

 

والثاني: مجيء اللفظة فاصلة؛ لأن قبله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} فناسب: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.

 

قال ابن عاشور: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَانٍ مِنْ مَعَانِي أَدَبِ النُّفُوسِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَخْلَاقِهَا تُعَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبَ التَّوَسُّمِ فِي الْحَقَائِقِ وَدَوَاخِلِ الْأُمُورِ وَعَدَمَ الِاغْتِرَارِ بِالظَّوَاهِرِ إِلَّا بَعْدَ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُغَرُّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ مُنْطَوٍ عَلَى بَاطِنِ سُوءٍ وَيُعْطِي مِنْ لِسَانِهِ حَلَاوَةَ تَعْبِيرٍ وَهُوَ يُضْمِرُ الشَّرَّ وَالْكَيْدَ قَالَ الْمعرِّيُّ:

وَقَدْ يُخْلِفُ الْإِنْسَانُ ظَنَّ عَشِيرَةٍ   ***   وَإِنْ رَاقَ مِنْهُ مَنْظَرٌ وَرُوَاءُ 

 

وَقَدْ شَمِلَ هَذَا الْحَالُ قَوْلَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَتَبْلُغُ هَلْهَلَةُ دِينِهِ إِلَى حَدِّ أَنْ يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى أَنَّ مَا يَقُولُهُ صِدْقٌ وَهُوَ بِعَكْسِ ذَلِكَ يُبَيِّتُ فِي نَفْسِهِ الْخِصَامَ وَالْكَرَاهِيَةَ.

 

وَعَلَامَةُ الْبَاطِنِ تَكُونُ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمَرْءِ، فَالَّذِي يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَلَا يَكُونُ صَاحِبَ ضَمِيرٍ طَيِّبٍ، وَأَنَّ الَّذِي لَا يُصْغِي إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ إِذَا دَعَوْتَهُ إِلَيْهِ وَيُظْهِرُ عَلَيْهِ الِاعْتِزَازَ بِالظُّلْمِ لَا يَرْعَوِي عَنْ غَيِّهِ وَلَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ الذَّمِيمَةَ، وَالَّذِي لَا يَشِحُّ بِنَفْسِهِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ يُنْبِئُ خُلُقُهُ عَنْ إِيثَارِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ، وَمَنْ لَا يَرْأَفُ فَاللَّهُ لَا يرأف بِهِ.

______________________________________________________

الكاتب: د. خالد النجار

  • 1
  • 0
  • 1,448

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً