فما ظنكم برب العالمين
حين نتأمل قصة أصحاب الكهف، نتعجب من تقدير الله لهم، كيف أنه جعل لهم الكهف المظلم الوعر رحمةً ونورًا وسكينة، كيف غيَّر لهم نواميس الكون...
- التصنيفات: التقوى وحب الله -
حين نتأمل قصة أصحاب الكهف، نتعجب من تقدير الله لهم، كيف أنه جعل لهم الكهف المظلم الوعر رحمةً ونورًا وسكينة، كيف غيَّر لهم نواميس الكون، فجعل الشمس تبتعد عن كهفهم وقت الشروق والغروب لئلا تؤذيهم بحرِّها، كيف ضرب على آذانهم لئلا يستمعوا إلى شيء يوقظهم من نومتهم، كيف حفظ لهم أبدانهم كل هذه المدة دون قرحٍ أو أذى! كيف جعل الكلب يجلس في مقدمة الكهف ليُرهب مَن يقترب منهم، كل هذه الكرامات والرحمات والرشد والتهيئة التي امتن الله عليهم بها، جعل لهم لسان صدق فيمن جاء بعدهم، ولكن يزول كل هذا العجب عندما نقرأ هذه الآية: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16].
قال بعضهم لبعض: بما إننا سنعتزل قومنا لئلا يفتنونا في ديننا، فهيَّا بنا لندخل الكهف ونأوي إليه، يبسط لنا ربنا رحمة من عنده، ويهيئ لنا أمرَ رشدٍ ورفقٍ.
ما هذه الثقة بالله! من أين تعلَّموها؟ ما هذا اليقين بقدرته! متى عرفوه؟ وما هذا الرجاء في رحمته! كيف تشرَّبته قلوبهم؟ وما هذا التوكل الذي يغشى قلوبَهم رغم انعدام الأسباب الظاهرة؟
هنا يزول العجب، فأعمالُ القلوب هذه وقوتها هي التي وصلت بهم لهذه الكرامات، فإن الله لا ينظر إلى أعمالنا إنما ينظر إلى قلوبنا، كيف لا وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
من يعتمد بقلبه على الله مع الأخذ بالأسباب في أمره نجاته من أي شرٍّ يتوقعه أو مكروه يحيق به، فإن الله يكفيه ما أهمَّه ويفرِج عنه، كيف لا وقد قال الله في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظُنَّ بي ما شاء».
فهم قد ظنوا أن ربَّهم سينجيهم ويفيض عليهم من رحماته، ويجعل لهم الكهف مكان أمن يسكنون فيه، وسيكون به مرافقُ تُحقق لهم السلامة والاستقرار، وهذا ما حدث بالفعل، فقد هيَّأه الله لهم أفضل مما ظنوا.
وإذا نظرنا لقصة هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هو وصاحبه الصديق، سنجد نفس هذا الملمح، ها هو رسول الله وصاحبه يخرجه قومه فارًّا بدعوته إلى أرض أخرى، يستطيع فيها نشر دعوته، يأمن فيها على نفسه وأصحابه من اضطهاد قريش.
أخذ بالأسباب فمشى في طريق غير معتاد، لجأ إلى غار ومكث فيه ثلاث ليال ليستخفي عن عيون قريش، فإذا بقريش تقترب من الغار كثيرًا، فخاف أبو بكر قائلًا لرسول الله: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فماذا كان رد النبي عليه الصلاة والسلام المتوكل على ربه؟ ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما.
هكذا استشعر معيَّة الله وولايته له، فهو ربُّه القادرُ على صرف قلوبهم عن النظر للغار، فهو مقلب القلوب والأبصار؛ قال تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
فماذا حدث لهم بعد هذه المقولة الخالدة؟
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة: 40].
أنزل الله سكينة منه سبحانه ورحمة واطمئنانًا، ملأت الغار، وجعل له ولصاحبه جنودًا تحميهما وتحفظهما من حيث لا يرون ولا يعلمون، وما يعلم جنود ربك إلا هو!
ونتجول بقلوبنا لنرى مثلًا آخر لحسن الظن والثقة بالله في أشد المواقف وأصعبها.
امرأة وحيدة وطفلها تسكن في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، فلم تجزع ولم تفزَع؛ لأنها علمت أن رب السماوات والأرض لن يضيِّعها ولن يضيِّع وليدها، نعم هي السيدة هاجر زوجة خليل الله، وما أجمل ما ربَّاها عليه زوجها الكريم من معاني المعية والتوكل وحسن الظن بربه سبحانه...
فما كان جزاؤها؟ بئرًا مباركة يشرب منها الناس إلى يوم القيامة كرامةً لها ولثقتها بالله، بل أصبحت خطواتها بين الصفا والمروة شعيرة من شعائر العمرة والحج إلى يوم الدين، هكذا هو عطاء رب العالمين لمن يثق به ويوكِّله في أمره ويلجأ إليه، فهو خير مستعان به سبحانه.
وهكذا ينصر الله رسله وأولياءه، ويفيض عليهم من معجزاته وكراماته، فما علينا إلا إحسان الظن به والثقة بوعده، والتوكل عليه ورجاء فضله، وكلها أعمال قلبية تحتاج لتطهير القلب والعناية به وتغذيته بمواد الإيمان والتوحيد الخالص لله، واستشعار أسمائه وصفاته الحسنى.
ونحن لابد لنا أن نراقب قوة توكُّلنا وحسن ظننا بالله في المواقف، هل إذا أصابنا ابتلاء أحسنَّا الظن بالله، أم ظننا أنه أمر شرًّا أحاط بنا؟
هل إذا تعرَّضنا لخوف شديد أيقنَّا أن الله سينجينا أم ظننا به ظنَّ السوء: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].
هل إذا أصابنا قلة في الرزق أو الولد، توكَّلنا على الله ليعطينا من فضله أم كنَّا: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]؟
فلنعتنِ بقلوبنا ونطهِّرها ونجعلها محلًّا لكرامات الله وآياته، فما ظنُّكم برب العالمين؟
______________________________________________________
الكاتب: سمر سمير