النظر والتأمل في إنزال الغيث

منذ 2022-09-03

يدعونا اللهُ عزَّ وجل إلى النظر والتأملِ في إنزال الغيثِ وكيف يسوقُه اللهُ إلى الأرض الجُرُزِ القاحلةِ المُجْدِبة فيُخرِجُ به الزرعَ والنبات..

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، ولنعلمْ أنَّ الغيثَ آيةٌ من آيات الله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39]؛ يقول السعدي رحمه الله في تفسيره: أي يابسة غبراء لا نبات فيها، {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39]؛ أي: تحركتْ بالنبات، ثم أنبتتْ من كل زوجٍ بهيج، فيُحيِي به العبادَ والبلاد[1].

 

ويقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28]، وهو الذي ينزل الغيثَ من بعد ما قنطوا؛ أي: من بعد إياسِ الناسِ من نزول المطر، ينزِّلُه عليهم في وقتِ حاجتِهِم وفقرِهم إليه، كقوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49]، وقوله: {وينشُرُ رحمته}؛ أي: يعُمُّ بها الوجودَ على أهل ذلك القُطْرِ وتلك الناحية[2]، ويقول السعدي في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]: يُبيِّنُ تعالى أثرًا من آثار قُدرته، ونفحَةً من نفحَات رحمته، فقال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}؛ أي: الرياحُ المُبَشِّرات بالغيث التي تُثيرُهُ بإذن اللّه تعالى من الأرض، فيستبشرُ الخلْقُ برحمة اللّه، وترتاحُ لها قلوبُهم قبل نزوله، {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} الرياحُ {سَحَابًا ثِقَالًا} قد أثاره بعضُها، وألَّفَهُ ريحٌ أخرى، وألْقَحَهُ ريحٌ أخرى {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}، قد كادتْ تهْلَكُ حيواناتُه، وكاد أهلُه أن ييئَسوا من رحمة اللّه، {فَأَنْزَلْنَا بِهِ}؛ أي: بذلك البلدِ الميتِ {الْمَاءَ} الغزيرَ من ذلك السحاب، وسخر اللّه له ريْحًا تدُرُّهُ وتُفرِّقُهُ بإذن اللّه، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، فأصبحوا مُستبشرين برحمة اللّه، راتعين بخير اللّه.

 

وقوله: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}؛ أي: كما أحيينا الأرضَ بعد موتها بالنبات، كذلك نُخرِج الموتى من قبورهم، بعد ما كانوا رُفاتا متمزقين، وفي هذا الحثُّ على التذَكُّرِ والتفكُّرِ في آلاء اللّهِ والنظرُ إليها بعين الاعتبار والاستدلالِ، لا بعينِ الغفلةِ والإهمال[3].

 

عباد الله، لذلك يدعونا اللهُ عزَّ وجل إلى النظر والتأملِ في إنزال الغيثِ وكيف يسوقُه اللهُ إلى الأرض الجُرُزِ القاحلةِ المُجْدِبة فيُخرِجُ به الزرعَ والنبات؟ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، وكيف تُصبحُ الأرضُ به مُخْضَرَّةً بعد الجدْب واليَباس؟ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63]، وكيف أنزلَه اللهُ من السماء عذْبًا زُلالًا صالحًا للشرب؟ {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} الواقعة (70)، وكيف أنبتَ اللهُ به الحدائقَ والزروعَ والثمار؛ رزقا للعباد؟ {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 -11]، وكيف أخرجَ اللهُ به الثمراتِ المختلفة؟ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا..} [فاطر: 27]، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32]، وكيف أنبتَ اللهُ به أصنافَ الطعام لبني آدمَ ولأنعامِهم، يقول السعدي في تفسيره: يخبر تعالى: أنه وحده {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على اتساعهما وعظمهما، {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، وهو: المطر الذي ينزله الله من السحاب، {فَأَخْرَجَ} بذلك الماء {مِنَ الثَّمَرَاتِ} المختلفة الأنواع {رِزْقًا لَكُمْ} ورزقًا لأنعامكم[4].

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 – 32].

 

أيها المسلمون، كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحبُّ الخيرَ للنَّاسِ، وكان كثيرَ الدُّعاءِ بالخيرِ، كثيرَ المسألةِ فيه، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم محبًّا للمَطرِ؛ لأنَّه جالبُ الخيرِ، غيرَ أنَّه كان وَجِلًا مِن الغَمامِ؛ خشيةَ أن يكونَ عذابًا، وفي الحديثِ الذي رواه البخاري في صحيحه[5] أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا رأى مطرًا دعا اللهَ عزَّ وجلَّ أن يكونَ هذا المطرُ «صَيِّبًا نافعًا» ؛ أي: مطرًا نافعًا للعبادِ والبلادِ، ليس مطرَ عذابٍ أو هدمٍ أو غرقٍ، كما أهلَك اللهُ قومَ نوحٍ بالسُّيولِ الجارفةِ، وعندما يتوقف المطر كان يقول: «مُطِرنا بفضل الله ورحمته» [6]، وكان إذا نزل المطر وخشي منه الضرَر دعا، وقال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» [7]، وإذا هبت الريحُ نهانا عن سبِّها؛ لأنها مأمورة، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ، قالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ ما فِيهَا، وَخَيْرَ ما أُرْسِلَتْ به، وَأَعُوذُ بكَ مِن شَرِّهَا، وَشَرِّ ما فِيهَا، وَشَرِّ ما أُرْسِلَتْ به»، قالَتْ: وإذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ، سُرِّيَ عنْه، فَعَرَفْتُ ذلكَ في وَجْهِهِ، قالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقالَ: لَعَلَّهُ، يا عَائِشَةُ كما قالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالوا هذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}  [الأحقاف:24][8].

 

وعن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ أنَّه كان إذا سمِعَ الرَّعدَ تركَ الحديثَ وقال: سبحان الَّذي {يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] ثمَّ يقولُ: إنَّ هذا لوعيدٌ شديدٌ لأهلِ الأرضِ)[9]، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ إذا سمع الرعدَ والصواعقَ قال «اللهمَّ لا تقتلْنا بغضبِك ولا تهلكْنا بعذابِك وعافِنا قبلَ ذلك» [10].

 

فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على محمدٍ رسولِ الله، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى عليَّ صلاةً، صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا».

 

اللهم صلِّ وسلِّمْ على أفضلِ الأنبياءِ والمُرسَلين، نبيِنا محمدِ بنِ عبدِ الله وعلى آله الأطهار، وصحابتِه الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ الليلُ والنهار.


[1] السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 750.

[2] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 4/ 125.

[3] السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 292.

[4] السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 426.

[5] البخاري (الصفحة أو الرقم: 1032).

[6] صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 71.

[7] أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897) باختلاف يسير.

[8] صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 899.

[9] صحيح الأدب المفرد الصفحة أو الرقم: 556.

[10] مسند أحمد الصفحة أو الرقم: 8/98.

_______________________________________________________

الكاتب: محمد بن حسن أبو عقيل

  • 0
  • 0
  • 1,929

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً