نعمة الأمن
جِماعُ أسباب رغد المعيشة، والأمن والسلامة، وسعادة الدنيا، في قول النبي ﷺ: «من أصبح آمناً في سربه -بيته- معافىً في جسده، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها».
إن نعم الله علينا تترى يكذب مدعٍ حصرها، ويعجز مؤمل عدها، نعم تترادف حلقاتها تلحق الحديثة منها بالقديمة، ولا أجلى في بيان كثرتها وعظيم منفعتها، من قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم 34]
غير أن هناك نعمةً لا ككل النعم، بانعدامها لا يجد المرء للحياة معنىً، ولا للعيش مذاقاً، امتنَّ الله بها من قبلُ على قريش فقال: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [سورة قريش]
عباد الله:
في ظل الأمن والأمان والإيمان تحلو العبادة، فيصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً،الأمن والأمان عماد كل نجاح، وهدف مرتقب لكل المجتمعات، فإذا آمن الناس أمنوا، وإذا أمنت المجتمعات نمت، فلا أمن بلا إيمان، ولا نماء بغير ضمانات ضد الهدم {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام82].
ولقد كانت العرب قبل الإسلام لا تعرف للأمن مذاقاً، فكانوا رعاعاً يقتل بعضهم بعضاً، يعيشون على القتل والسلب، والسرقة والنهب، وحرب داحس والغبراء وكذا البسوس خير شاهد على ذلك، فلما جاء الإسلام وأشرقت أنواره، بشرهم بمثل ما بشر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم به عدى بن حاتم الطائي، قال عدي بن حاتم)) بينا أنا عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل، فقال: «يا عدي هل رأيت الحيرة». قلت لم أرها وقد أنبئت عليها قال:«فإن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله» - قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دُعَّار طيء الذين قد سعروا في البلاد - «ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى» قلت كسرى بن هرمز ؟ قال: «كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله فلا يجد أحدا يقبله منه....» ثم إنه رأى الظعينة ترتحل لا تخاف إلا الله والذئب علي غنمها ليتحقق قول الصادق المصدوق صلَّى الله عليه وسلَّم. وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تقوم الساعة حتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق».
أيها الناس:
إن النهج الذي شرعه الله في بيته الحرام، في إيجاد منطقة يلقى فيها السلاح، وتحقن فيها الدماء، ويأمن كل أحد على نفسه وأهله وماله، ويجد كلٌ مأواه ومأمنه، ليتجلي في ذلك كله حكمة الأمن، ونعمة الأمان، {وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت67] {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة 125] في الحرم أمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، أمنوا حتى من القول البذيّ، واللفظ الفاحش، {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة197] وأمنِ في الحرم الطير والوحش والحيوان كله، فلأجل التوحيد بيني بيت الله ولأجل الأمن حُرِّم بيت الله.
فالله الله في حفظ أمن حرم الله {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج25] روى الحاكم والطبراني عن ابن مسعود قوله مرفوعاً ((لو أن رجلاً همَ فيه بالحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً)) قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح علي شرط البخاري ووقْفُهُ أشبه من رفعه ولذا صمم شعبه على وقفه، وعدوا احتكار الطعام ونحوه من الإلحاد في الحرم.
أيها الناس:
جِماعُ أسباب رغد المعيشة، والأمن والسلامة، وسعادة الدنيا، في قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «من أصبح آمناً في سربه -بيته- معافىً في جسده، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها» (رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه وحسنه السيوطي)، ولكن كثرة المساس تقل الإحساس، فلا يكاد أحد يستشعر هذه النعمة الجليلة في حياته، بل وكثيرون في غفلة عن شكر الله عليها.
إذا اجتمع الإسلام والقوت للفتى *** وكان صحيحاً جسمه وهو في أمن
فقد ملك الدنيا جميعاً وحازهــــا *** وحقَّ عليه الشكر لله ذي المنــــــن
وإذا كان الأمن نعمة لا يختلف عاقلان على أهميته فإن المحافظة عليه أوجب وآكد، وهي مسئولية مشتركة على المجتمع بأسره، وكم يقض مضاجع الغيورين صورٌ ومشاهدُ تتكرر بين الفينة والأخرى، تكون سبباً في نقض الأمن أو نقصه، ومن أجلى صور زعزعة الأمن الوقوع في الظلم المنهيِّ عنه في قول الله عز وجل {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام 82] وأظلم الظلم الشرك بالله، فهو أم الكوارث وأساسها، وإن التوحيد الخالص هو أفضل طُلْبه، وأعظم رغبة، وأشرف نِسبة، وأسمى رتبة، وهو وسيلة كل نجاح، وشفيع كل فلاح، يُصيِّرُ الحقير شريفا، فيقدم الأخير، ويطوِّلُ القصير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، ما عزت دولة إلا بانتشاره، ولا زالت أوذلت إلا باندثاره.
ولعل قائلاً أن يقول أنا لا أرى مسلماً يرتاد بيعةً ولا يسجد لصنم، فأين مناقضتنا التوحيد؟؟ فلتعلموا عباد الله أن نواقص التوحيد ونو اقضه تعدد صوره في مثل التعلق بغير الله، أو تقديم حكم غير الله على شريعة الإسلام، أو الولاء لغير المؤمنين، وكإتيان السحرة والكهنة والمشعوذين، وإنها خطيرة خطر الهلاك وإن دقت وصغرت في أعين الناظرين، فالحذر الحذر منها.
ومن مزعزعات هذا الأمن الوارف: المعاصي بشتى ضروبها وأنواعها، فإن المعاصي تزيل النعم، فليعلم كل عاصٍ لله تعالى فوق كل أرض وتحت كل سماء، أكان على شاطئ البحر، أو في ضفاف النهر، أو على رمال البر، أو داخل بيته ومسكنه، أنه بمعصيته هذه يعجِّل نقمة الله عليه وعلى أهل مجتمعه، قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي : (ومنها - أي من آثار المعاصي وأضرارها - أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب، ولا حلت نقمة إلا بسبب ذنب، كما قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب: (ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة) قال تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى 30].
فأنتِ يا أيتها المتبرجة المتعطرة في الأسواق والمجامع العامَّة، وأنت يا تارك الصلاة، يا غافلاً عن الله، وأنت يا من تبيع الحرام من مأكول أو مشروب أو ملبوس، ويا من تعين على الحرام بالنظر إليه والتعلق بصوره، حذار حذار أن تكونوا دعاة على أبوب جهنم، ومن مروجي الضلال، وبائعي الإنحلال، وسبباً في بث الفتن، وذوي أدوارٍ في زعزعة الأمن وبث الخوف.
ومن أهم المهمات التي يحافظ بها على الأمن: ما شرعه الله من إقامة الحدود، التي فيها زجر للناس عن الجرأة على معاصي الله التي نهى عنها وبذلك يحافظ على الدين والنفس والمال والعقل والعرض، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا» (رواه النسائي وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني).
ولقد كان لهذه البلاد قدم السبق والقدح المعلَّى في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على من حقت عليه، مما أورث الأرض أمناً، والعباد طمأنينة وعزاً، فدونكم هذه النعمة فارعوها حق رعايتها، ولا يضيرنَّ أحداً دعاوى الغرب الكافر ونداءاته، والمتهمة للشريعة الإسلامية، ومطالباتهم بحجب الحدود والكف عن تسليط سيف العدالة على رقاب الظلمة، فإن ذلك من دواعي الخسران، والحياة الحقيقية ما هي إلا في شريعة الله فحسب، فيا لله العجب كيف يرحم الغرب الكافر مجرماً أثيما اعتدى علي الحرمات، وجنى بكسب يديه المحرمات، فروَّعَ عبادَ الله المؤمنين، وبثَّ الفزع بين الآمنين، فعلام يرحمون الظالم ويرأفون بالمعتدي، والضحايا أولى بالرحمة والشفقة، والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة 179].
فيا أيها الناس إنها كلمة توجَّه إلى مزعزعي الأمن أينما كانوا في ديار الإسلام، أنىَّ يرضى أحدكم أن يرعب إخوانه ويرهبهم، وأعداء الإسلام أولى، وإرهابهم دين وجهاد، أيسلم منك اليهود والنصارى، والترك الديلم وتوجه سهامك وتسخر جهودك للفتك بأبناء المسلمين؟؟
كيف ترضى أن يحل في ديار الإسلام الضعف محل القوة ؟؟ والكدر مكان الصفاء، والهم مكان الفرح، ألا ترى أنه لا يؤنسك جليس ولا يريحك حديث؟ تخاف من الهمس وتألم من اللمس، متلفت لا تصل، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء وتَرَكْتَ الدواء؟
أولم تفكر يا مزعزع الأمن في والديك وولدك وأهل بيتك، وكيف تجلب عليهم الويلات والحسرات، أفق من غيك وكن من المصلحين، ولا تركن إلى الهوى فإن من علا – ارتفع - على هواه سمى وعلا.
_______________________________________________________________
الكاتب: الشيخ بلال بن عبدالصابر قديري
- التصنيف: