تعظيم قدر الجمعة
إنّ للجمعة حقًّا فإياك أن تضيّع حرمته أو تقصر في شيء من عبادة الله والتقرّب إليه بالعمل ...
1- الأذان للجمعة والسعي إليها:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 9 - 11].
المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر، فإنه كان حينئذٍ يُؤذن بين يديه.
ومعنى السعي إليها: المشي على الأقدام من غير إسراع، وأما الذكر الذي أمر الله تبارك وتعالى بالسعي إليه عبادَه المؤمنين، فإنه موعظة الإمام في خطبته فيما قيل.
وقوله تعالى: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}؛ أي: الصلاة، وقيل: الخطبة والمواعظ، والصحيح: أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة، والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع، ولولا وجوبها ما حرمته؛ لأن المستحب لا يحرم المباح، وإذا قلنا: إن المراد بالذكر الصلاة، فالخطبة من الصلاة، والعبد يكون ذاكرًا لله بفعله، كما يكون مُسبِّحًا لله بفعله.
وقال ابن تيمية رحمه الله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فدلَّ على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة، وحينئذٍ يتضيق وقته، فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره، فإذا سعى إليها قبل النداء، فقد سابق إلى الخيرات، وسعى قبل تضييق الوقت.
ثم قال: وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]، وقال تعالى: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37] فما كان ملهيًا وشاغلًا عما أمر الله تعالى به من ذكره والصلاة له، فهو منهي عنه؛ وإن لم يكن جنسه محرمًا؛ كالبيع، والعمل في التجارة وغير ذلك.
وقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}؛ أي: اسعوا إلى ذكر الله، واتركوا البيع إذا نودي للصلاة؛ ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني، واختلفوا: هل يصح إذا تعاطاه متعاطٍ أم لا؟ على قولين، وظاهر الآية عدم الصحة.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني: أن الصلاة خيرٌ لكم من البيع والشراء؛ لأن الصلاة تفوت بخروج وقتها، والبيع لا يفوت {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مصالح أنفسكم ومضارها.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} يعني: أُدِّيَتْ {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} يعني: الرزق من البيع والشراء، وقيل: ليس بطلب دنيا؛ ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله، وقيل: هو طلب العلم.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} اذكروه بالحمد والشكر على ما وفَّقكم له لعلكم تنجون وتبقون في النعيم الدائم، وقيل: ذكر الله باللسان والطاعة، ولا يكون من الذاكرين كثيرًا حتى يذكره قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا.
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} عن جابر بن عبدالله، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يوم الجمعة، إذ قدمت عير إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلًا، فيهم أبو بكر وعمر، قال: ونزلت هذه الآية: {رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}.
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} ما عند الله من ثواب صلاتكم خيرٌ من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} يعني: أن الله سبحانه خير من رزق وأعطى، ورزق الله خير الأرزاق.
2- التغليظ في ترك الجمعة:
عن عبدالله بن عمر وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول على أعواد منبره: «لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعِهم الجُمُعات، أو ليُختمَنَّ اللهُ على قلوبهم، ثم ليكوننَّ من الغافلين»[1].
قوله: «ثم ليكوننَّ من الغافلين»؛ أي: عن الخيرات والعبادات، فلا يفقهوا أسرارها، ولا يذوقوا حلاوتها، وإن فعلوها فهي كالجسد بلا روح، فلا تؤثر في تنوير قلوبهم حتى يلجئوا إلى الله تعالى، ويتوبوا توبةً نصوحًا، وحينئذٍ يعود إليهم حالهم.
والختم بمعنى الطبع، وسُمِّي ختمًا مثل ما يختم الإنسان على الظرف لزيادة التوثقة، والمعنى: أنه- والعياذ بالله- يختم على القلب في غلاف لا يصل إليه خيرٌ قطُّ؛ لأنهم تركوا الجمعيات يقول: ((ثم ليكوننَّ من الغافلين)) هذه نتيجة الطبع أو الختم: الغفلة عن ذكر الله وعن آياته، والغفلة عن ذكر الله وآياته تستلزم أن يكون أمر الإنسان فرطًا ما يستفيد من وقته، ولا من عمره، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]؛ ضائعًا والعياذ بالله.
وترك الجمعات من كبائر الذنوب، من أين تؤخذ؟ من الوعيد عليه، وكل ذنب فيه وعيد فإنه من كبائر الذنوب.
وعن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن تركَ ثلاثَ جُمَعٍ تهاونًا بها، طبَعَ اللهُ على قَلْبِه»[2].
أي: تركها للتهاون بها طبع الله تعالى على قلبه، الطبع أخو الختم، وهو كناية عن شدة عدم دخول الإيمان ووصول الحق إليه، ومنه قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]؛ أي: أغلقها وختمها ومنعها ألطافه، ولا تدخلها الموعظة، وإن دخلت فلا تعيها، تشبُّهًا بالشيء الذي يختم عليه بعد الشدِّ زيادةً في الإغلاق والإيكاء.
والختم على القلوب مثل الطبع عليها، وهذا وعيد شديد؛ لأن من طبع على قلبه وختم عليه لم يعرف معروفًا ولم ينكر منكرًا، وقد قال عبدالله بن مسعود والحسن البصري: إن الصلاة التي أراد النبي عليه السلام أن يحرق على مَن تخلَّف عنها هي الجمعة.
[1] مسلم (865).
[2] أبو داود (1052).
- التصنيف: