التحذير من داء الغفلة
لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت. فهو يقعده عن الترقي في مراتب الإيمان
هناك قوانين تنظم حركة السير على الطريق، وعلامات ترشد إلى السلامة، وإشارات تنذرك من الندامة، وأثناء السير معوقات كحفر ومطبات، وعلى جانبي الطريق مغريات كالشهوات، وعلى السائق أن ينتبه للطريق؛ فلو غفل للحظة قد يحدث ما لا يحمد عقباه، تخيل لو أن سائق المركبة وقد عصب عيناه، وصم أذناه هل له من نجاة؟، الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : 56 ]، وامرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء، وزودهم بالبصيرة وأرسل لهم الرسل، وأنزل لهم الكتب ليذكرهم بما هم مقبلون عليه من موت وبعث وحساب وجنة أو نار، عن عبدالله بن مسعود أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطَّ خطًّا مستقيمًا، فقال: «هذا سبيلُ اللهِ، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، وقال: هذه السبُلُ على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه، ثم تلا هذه الآيةَ: وأِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ»[1].
والعبد في طريقه إلى الله حري به أن ينتبه من غفلته، ولينزع الغشاوة عن عينيه والوقر من أذنيه، يقول بن فارس: الغفلة غيبة الشّيء عن بال الإنسان، وعدم تذكّره له، وقد استعمل فيمن تركه إهمالا، وإعراضا[2]، وقال الكفويّ: الغفلة عدم إدراك الشّيء مع وجود ما يقتضيه[3].
نهارك يا مغرور سهو وغفـلةٌ *** وليلك نومٌ والردى لك لازمٌ
وشغلك فيما سوف تكره غبه *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وقد تناول القرآن الكريم لفظ الغفلة ومشتقاتها في خمس وثلاثين آية تنوعت فيها أنواع الغفلة، وتنقسم الغفلة من حيث النية إلى:
غفلة مقصودة وهي الإصرار على الكفر والشرك والمعصية من الفساق، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة : 67].
غفلة غير مقصودة وهي اقتراف ذنب على غير قصد، وسرعان ما يتوب العبد منه ويقلع عنه، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه : 115]، وحذر الله تعالى أهل الايمان من الوقوع في الغفلة والاعتبار بمن سبقهم، فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر : 19].
عندما يخطئ المخالف قد يتعلل بالغفلة أو الجهل لدفع الجرم عن نفسه أملا في النجاة من العقوبة، فتبين لهم الآيات بطلان الدوافع ودليل الجرم يأخذ بتلابيب رقابهم يسوقهم إلى عاقبة غفلتهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف : 172]، وقال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام : 156]، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة : 19].
داءُ الغفلة داء عضال، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:1- 2]، قال الحسن البصري: "عجبت لأقوام أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل وهم يلعبون"[4]، إن تمكن الداءُ من القلب عطل العين بالغشاوة والأذن بالوقر فمنع القلب العلم.
وقد بين الله تعالى أعراض ذلك الداء قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل : 108]، فرطوا في الواجبات، وأقبلوا على الشهوات، ألفوا المعصية وكرهوا الطاعة، لا يذكرون الموت إلا قليلا، سهوا عن تدبر قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص : 29]، وغفلوا عن الإنصات قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف : 204]، فمنعوا الرحمة بعدم الانصات، يقول ابن القيم: "إن حجاب الهَيْبَةِ لله عز وجل رقيقٌ في قلبِ الغافلِ"[5]، فإذا ذكرته بالله لم يرتدع، فقد جعل الله سبحانه أهون الناظرين إليه، انظر إلى حال البعض في تشيع الجنائز يتسامرون، وفي سرادق العزاء يضحكون وكأنهم قد ضمنوا الجنة وأمنوا النار قال تعالى حكاية عن أهل الكتاب: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 80] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة : 18]، فالإيمان ليس بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء : 123].
إن الغفلة مهلكة للفرد وللمجتمع وقد توعد الله أهل الغفلة بوعيد شديد في الدنيا والآخرة: قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف : 146]، وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف : 179]، في الدنيا ضنك، وفي الآخرة عمى، فكان الجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه : 124 - 127] ويقول بن القيمً: "على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله"، ويقول الإمام ابن القيم في ذلك: "لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت"[6]، فهو يقعده عن الترقي في مراتب الإيمان، ويؤدي إلى الهلكة، فهذا فرعون أهلكه الله تعالى بغفلته: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ، هذا عقاب الدنيا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}[طه : 127]، فالنار موعدهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس :7- 8]. فالغفلة مانعة لقبول الدعاءعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله عزّ وجلّ أيّها النّاس، فسلوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل» [7] ، وبالغفلة اسكنت الشيطان بيتك واطعمته طعامك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا دخل الرّجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشّيطان:لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشّيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء» [8].
والغفلة عن أداء الفريضة في وقتها بغير عذر دليل نفاق عن العلاء بن عبد الرّحمن؛ أنّه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة. حين انصرف من الظّهر. وداره بجنب المسجد. فلمّا دخلنا عليه قال:أصلّيتم العصر؟ فقلنا له: إنّما انصرفنا، السّاعة من الظّهر. قال: فصلّوا العصر. فقمنا فصلّينا. فلمّا انصرفنا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تلك صلاة المنافق. يجلس يرقب الشّمس. حتّى إذا كانت بين قرني الشّيطان. قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلّا قليلا» [9]، وكذلك التهاون في الجمعة عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنَّهُما سَمِعا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ علَى أعْوادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهينَّ أقْوامٌ عن ودْعِهِمُ الجُمُعاتِ، أوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ علَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكونُنَّ مِنَ الغافِلِينَ» [10].
الوقاية خير من العلاج، فمن وجد في نفسه شيأ من الأعراض فليسارع بالدواء، ومن لم يجد فليحمد الله ويحذر عدوي الداء:
من الوقاية: مجالسة الذاكرين والبعد عن الغافلين قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف : 28]، قال ابن القيم: "إن مجالسَ الذكرِ مجالسُ الملائكةِ ومجالسَ اللغوِ والغفلةِ مجالسُ الشياطينِ، فليتخيرِ العبدُ أعجبهما إليه وأولاهما به فهو مع أهله في الدنيا والآخرة"[11]، قال الشاعر:
واحذرْ مُصاحبةَ اللئيم فإنّهُ *** يُعدي كما يُعدي الصحيحَ الأجربُ
ومن الوقاية: التحصن بالذكر قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} الأعراف : 205]، وعَنْ يُسَيْرَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ قَالَتْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ» [12].
ومن الوقاية مطالعة القرآن الكريم: عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين» [13].
ومن الوقاية: الحذر من غفلة ذوي المكانة في الدنيا وإن حملو أكبر الشهادات العلمية قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم : 7].
ومن الوقاية الا تهم بأمر إلا بذكر وطلب المعونة من الله قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا . إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}[الكهف :23- 24]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ مَشَى طَرِيقًا فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً» [14]، وفي رواية أخرى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضاً قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَجْلِسٍ فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَانَ مَجْلِسُهُمْ تِرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،والترة» [15]، أي الحسرة والندامة.
لذا حرصت آي الذكر على ايقاظ العباد من الغفلة وعابت عليهم تأخير التوبة، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 16]
وجد مكتوب غلى قبر:
يا أيها الناس كان لي أمل *** قصر بي عن بلوغه الأجل
فليتق الله ربه رجل *** أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي نقلت حيث ترى *** كل إلى مثقله سينتقل
يترقب الغدو دوما لحظات الضعف والغفلة ليحرز النصر وينال منك فيأمرك الله بالحذر وأخذ الحيطة والترقب لتحركاته، قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً}[النساء : 102]، وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ}[يوسف: 13]، غفلة الحقد والحسد تجاه أخيهم كانت مدخل المكر بيوسف عيه السلام، قال تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}[القصص : 15]، الاحساس بالظلم والاستضعاف تجاه شيعته جعل موسى يوجز الرجل بغير قصد.
الغفلة المحموده هي التي يتغافل فيها الانسان العاقل عن زلات وهفوات الآخرين وعن القبائح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[البقرة : 267]، قال القرطبي اي تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم[16]
قال تعالى:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}[التحريم : 3] اعرض عن بعض الحديث على وجه التكرم.
قال الشّيخ العزّ بن عبد السّلام: "الغفلة عن القبائح مانعة من فعلها، إذ لا يتأتّى فعلها إلّا بالعزم عليها، ولا عزم عليها مع عدم الشّعور بها، وتحصل هذه الغفلة بالأسباب الشّاغلة، وقد جعلها من المأمورات الباطنة، أمّا الغفلة عن ذكر الله فهي من المنهيّات الباطنة"[17] والأولى محمودة والثّانية مذمومة.
قال عمرو بن عثمان المكي: المروءة التغافل عن زلل الأخوان[18].
قال سفيان الثوري: مازال التغافل من فعل الكرام[19].
قال جعفربن محمد الصادق: عظموا أقداركم بالتغافل[20].
وقال الأوزعي: السلامة عشرة أجزاء تسع منها في التغافل[21].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- (مجموع فتاوى ابن باز [281/4]).
2- (لسان العرب [11/ 497- 499]، والنهاية في غريب الحديث [3/ 375]، ومقاييس اللغة [4/ 386]).
3- (الكليات [506]).
4- (كتاب الزهر الفائح في ذكر من تنزه عن الذنوب والقبائح - حاسب نفسك - المكتبة الشاملة الحديثة [15]).
5- (الوابل الصيب [62]).
6- (الوابل الصيب [62]).
7- (أحمد [2/ 177]).
8- (مسلم [2018]).
9- (مسلم (622).
10- (مسلم [865]).
11- (الوابل الصيب [62]).
12- (الترمذي [3507]).
13- (الدارمي [2/ 555]، والحاكم في المستدرك [1/ 556] واللفظ له).
14- (المسند [9213]).
15- (المسند [9213]).
16- (القرطبي (الجامع لأحكام القرآن [3] [326]).
17- (شجرة المعارف والأصول[95]).
18- (البيهقي شعب الإيمان [8147]).
19- (تفسير البقاعي (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور[9] [73]).
20- (أبو حبان التوحيدي (البصائر الزخائر [405]).
21- (التقي الغزي، الطبقات السنية في تراجم الحنفية [269]).
- التصنيف:
- المصدر:
Mahmoud Bani Yaseen
منذ