زنجبار: إبادة منسيّة لمسلمين في دولة عربية ضائعة
مجزرة زنجبار العنصرية بحق العرب العُمانيين والتي وقعت بتحريض من الاستعمار البريطاني (الملكة إليزابيث) وراح ضحيتها 20 ألف مسلم.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية - غزوات ومعارك -
تسمع دائمًا عن خط الاستواء، لكن هل جربت الحياة حوله من قبل؟ دولة زنجبار جرّبت، بل تتميز زنجبار عن باقي الدول الواقعة على خط الاستواء بأن شروق الشمس هو بداية يومها، فإذا كانت الساعة السابعة صباحًا في بلدك، فستكون الواحدة صباحًا في زنجبار.
لكن أهم ما يُميز زنجبار أنها دولة منسية، رغم أنها دولة مسلمة إلا أن قليلًا من الدول الإسلامية من يعرف وجودها، رغم أنها ضمنيًا عضوة في منظمة التعاون الإسلامي. تُعتبر عضوة ضمنيًا لأنها رسميًا تابعة لدولة تنزانيا، وتتكون من عدة جزر في المحيط الهندي، لكنها ليست جزيرةً جغرافيةً فحسب، بل سياسية كذلك، فهي تتمتع بالاستقلال الكامل في نظام الحُكم.
المفاجأة الأكبر عن زنجبار المنسية أنّها لم تعرف الإسلام حديثًا، بل عرفته منذ قرابة ألف عام كاملة، منذ الدولة الأموية، حين أراد الحجاج بن يوسف الثقفي ضم عُمان إلى الدولة الأموية فجيّش لها قوةً مهيبة انطلقت لعُمان ومنها إلى الجزر المجاورة والمحيطة بها، ما يُفسر أن غالبية سكانها من المسلمين.
لكن توجد بعض الدلائل التي تشير إلى وجود الإسلام في زنجبار قبل دخول جيش الحجاج لها، بسبب الرحلات التجارية المستمرة بين الهند وإفريقيا. وأول المساجد التي بُنيت في جنوب أفريقيا كان مسجدًا في زنجبار. لم تتغير التركيبة السكانية أو الثقافية لزنبجار حين أصبحت تابعةً لتنزانيا في أواخر القرن العشرين بعد انتهاء الانتداب البريطاني عليها، ولا حين رضخت لمدة قرنين متواصلين تحت الحكم البرتغالي الاستعماري.
بريطانيا تحتل الجنة الضائعة:
عام 1689 وقعت زنجبار تحت سلطة عُمان رسميًا فانتعشت التجارة بين الهند وأفريقيا وساحل الزنج، زنج بار أو ساحل الشعب الأسوّد، حتى صارت زنجبار معروفةً ببستان أفريقيا، فقد كانت تُصدّر القرنفل والثوم والعاج، كما كانت أيضًا مركزًا حيويًا في تجارة الرقيق، تستقبلهم موانئها قادمين من أنحاء أفريقيا ثم تُصدّرهم إلى أوروبا وأمريكا.
لكن كما كانت التجارة سبب ازدهار زنجبار، كانت هي سبب انهيارها لاحقًا. السلطان سعيد البحري قال ذات مرة واصفًا نفسه، أنا تاجر قبل أن أكون سلطانًا، وقد كان بالفعل تاجرًا ممتازًا فزادت التجارة في عهده حتى وصلت موانئ فرنسا وبريطانيا.
لكن كان الوصول للقمة إيذانًا ببداية الاضمحلال، فقد تشاركت بريطانيا مع زنجبار بقوة في تجارة الرقيق حتى أصبحت بريطانيا مسيطرةً بصورةٍ غير مباشرة على اقتصاد زنجبار، لكن حين توجهّت بريطانيا لتحرير الرقيق أخذت تتدخل بشكل مباشر في الشئون السياسية والداخلية لزنجبار.
ظلت بريطانيا تتدخل بصورة غير رسمية حتى عام 1890، ففي ذلك العام أعلنت بريطانيا وصايتها رسميًا على زنجبار. استمرت تلك الوصاية 70 عامًا، في تلك الأعوام السبعين وضعت بريطانيا خطتها القوية كي تضمن سيطرتها على زنجبار ومن خلالها تسيطر بريطانيا على الساحل الشرقي لأفريقيا، كما وطنّت بريطانيا نفسها أن تظل متحكمةً في الساحل الأفريقي حتى لو انتهى الاحتلال رسميًا.
الثورة الدموية تنهي سيطرة العرب:
ولضمان استمرارية التواجد في زنجبار اتبعت بريطانيا سياسةً قديمةً لكنها فعالة دائمًا، القوميّة. دعمت بريطانيا فكرة القومية الأفريقية، إذ نشرت فكرة التفريق بين المسلمين من أصل أفريقي والمسلمين من أصل عربي، فبدأت بذلك شرارة لسياسة طويلة الأمد تهدف لإقصاء المسلمين العرب من الساحل الأفريقي بيد الأفارقة أنفسهم.
الشرارة البريطانية أشعلت ثورةً دمويةً عام 1964 بين المسلمين الأفارقة والمسلمين العرب، احتدمت الخلافات وزاد التوتر واشتعلت النيران حين استعانت بريطانيا بمأجورين أفارقة للاعتداء على المسلمين العرب. آتت الخطة البريطانية أُكلها وقُتل من المسلمين العرب قرابة 11 ألفا إلى 20 ألف عربي قتلوا خلال سويعات!، وهُجّر الآخرون قسريًا حتى انخفض العدد من خمسين ألف عربي إلى 12 ألفًا فقط.
أطاحت ثورة عام 1964 بالسلطان جمشيد بن عبد الله وحكومته المؤلفة من العرب وبنظام الحكم الملكي الدستوري. في العام السابق لتلك الثورة كانت بريطانيا لتوّها قد منحت زنجبار استقلالها، لكن الانتخابات النيابيّة حافظت على وجود العرب على رأس السلطة، لبقاء الاعتقاد الشعبي المترسخ بأن زنجبار امتداد لسلطنة عمان العربية المسلمة، لا للقارة الأفريقية.
فأُحبطت الأحزاب اليسارية حتى قام جون أوكيلو عضو حزب أفروشيرازي بتجنيد 600 مرتزق لاحتلال مراكز الشرطة وسرقة أسلحة جنودها، ثم تقدم في نفس اليوم نحو العاصمة، ستون تاون، فأطاح بالسلطان وحكومته، ثم استدار للعرب والمسلمين وبدأ في قتلهم على الهوية، وفي آخر اليوم أتى بِعبيد كرومي ونُصّب رئيسًا للدولة الجديدة.
القوات الأجنبية تستعد للتدخل:
خشي الغرب من أن يكون قد استبدل حكومة شيوعية بحكومة مسلمة، فاستدعت بريطانيا والولايات المتحدة للتدخل، لكن لم يحدث شيء. أظهر لهم كرومي نواياه التعاونية بالسماح لهم بإجلاء رعاياهم بسلاسة ودون مشاكل، فاطمأن القلب الغربي، وبدأ الجميع في مرحلة تعاون جديدة مع زنجبار. بل اقترح كرومي لضمان عدم سيطرة الشيوعيين مستقبلًا على زنجبار أن تُدمج الدولة مع دولة تنجانيفا ويكوّنا معًا دولة تنزانيا.
راقت فكرة كرومي للجانب الغربي، فتّم الأمر، وأصبحت ذكرى الاتحاد حدثًا قوميًا يُحتفل به سنويًا ويُعتبر إجازة رسمية في الدولة، وصارت عمل زنجبار هي الشيلينج التانزاني، وعاصمتها الجديدة زنجبار.
كانت أول قرارات كرومي بعد أن استتب له الأمر هو طرد السلطان نهائيًا وحلّ الأحزاب المؤيدة للحكومة المُنقلب عليها، ظل السلطان في منفاه حتى أواخر سبتمبر/ أيلول 2020، ليعود إلى بلاده بعُمر يبلغ 91 عامًا، قضى منهم 56 عامًا في المنفى.
في تلك الأعوام العديدة تقدّم جمشيد بعدة طلبات للعودة إلى زنجبار، لكن كانت جيمعها تُرفض لأسباب أمنية. أقام جمشيد تلك الأعوام في منزل متواضع في بريطانيا، كانت أول إقامته في فندق فخم لكن لم يستطع تحمل تكاليفه، فمنحته بريطانيا مبلغ 100 ألف جنيه إسترليني عليه أن يعيش منها لباقي حياته، لذا انتقل لمسكن متواضع ومنعزل في هامبشاير.
طوال أعوامه الـ 56 في بريطانيا لم يلفت جمشيد الأنظار إليه أبدًا، لم يتحدث إلى الصحافة ولا إلى السكان المحليين ولا إلى جيرانه، فقد خرج من زنجبار صامتًا وعاش في بريطانيا صامتًا وعاد صامتًا، فلم تنشر الصحف المحلية الخبر ولم يُذع في الإعلام الرسمي لزنجبار.
الدم الأفريقي لا يكف عن الجريان:
خروج السلطان من زنجبار منفيًا للأبد لم يعنِ نهاية الصراع في الدولة الصغيرة، لأن كرومي أدرك أن جون أوكيلو قد ينقلب عليه لاحقًا كما انقلب على السلطان العربي، فأبعده بهدوء عن المشهد السياسي، لكن تركه يحتفظ بلقب المشير الذي منحه لنفسه. هذا الإبعاد الهادئ أزعج أوكيلو، لكنّه وجه انتقامه تجاه السكان العرب والآسيويين، فقاموا بعمليات اعتداء عديدة ونهب للممتلكات واغتصاب للنساء، وخرج أوكيلو في خطابات إذاعية متتابعة يطالب بالقتل والسجن لكل الأعداء والعملاء.
كما أنشأ أوكيلو قوات شبه عسكرية أسماها قوة الحرية العسكرية، كانت تلك القوة من مؤيديه وسُمح لهم بعمل دوريات في الشوارع ونهب ممتلكات العرب. هذه السطوة المتضخمة جعلت الشارع ينفر من أوكيلو ويميل ناحية كرومي الهادئ المتصالح، لذا في غفلة من أوكيلو وأثناء زيارة خارجية جرّده كرومي من لقب مشير وحاصر أتباعه ونزع أسلحتهم، وأعلن أن أوكيلو مصيره السجن إذا عاد إلى زنجبار، فعاد أوكيلو إلى مسقط رأسه، أوغندا، مجردًا من المنصب والمال.
بذلك استتب الأمر لكرومي، وبدأ الأفارقة يميلون إليه لأنه خلصهم من عدوّين لدودين؛ المسلمين العرب وأوكيلو، وانطوت تلك الصفحة من تاريخ زنجبار حتى باتت تُعرف اليوم للعالم باعتبارها دولة سياحية ساحلية، تستضيف سنويًا اثنين من المهرجانات الدولية الرئيسية، هما مهرجان زنجبار السينمائي الدولي، والمهرجان الموسيقي الأفريقي.
ربما كان الرقم الضخم من القتلى على أساس عرقي كفيلاً بجعل الأمر مجزرة كبرى، لكن لعنة النسيان والتهميش التي تُغلف زنجبار امتدت لتطوي هذا العدد الضخم من القتلى، فلا توجد العديد من المصادر العربية، والأجنبية بالطبع، التي تتحدث عن تلك المجزرة. الوثيقة الوحيدة المرئية التي يمكن الاعتماد عليها في إثبات تلك المجازر هي لقطة جوّية في فيلم وثائقي إيطالي بعنوان أفريقيا أيدوا، دماء وأحشاء في أفريقيا.
رغم أن عددًا كبيرًا من سكان زنجبار فروا إلى عُمان طلبًا للأمان، غير أن اللغة العربية السليمة المتواجدة في زنجبار حتى هذا اليوم تحكي عن أن عربًا عاشوا هنا، وكونها لغة محلية غير معترف بها رسميًا مثل اللغة السواحلية يُعد مؤشرًا آخر إلى حكاية طويلة من التهميش والإبادة.