والنجم إذا هوى
إذًا لماذا أقسَم الحقُّ - تعالى - بالنجم في القرآن على مصداقِيَّة الوحي الربَّاني للنبي الكريم - ﷺ؟ ولماذا حدَّده بـ"إذا هوى"؟
- التصنيفات: التفسير -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيِّنا الكريم، وعلى آله وصحْبه والتابعين لهم بإحسان.
يقول الله - جل جلاله -: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 1 - 5].
كثيرًا ما يُقْسم الحقُّ - تعالى - في القرآن بأشياءَ مختلفة، وهي أشياء تدلُّ دَلالة كبيرة على عِظَم منزلتها، وجلالة قدْرها، وعُمق إشارتها إلى حقيقة الوجود الإلهي، فالله - تعالى - إذا أقْسَم بشيء على شيء، فكما يعني ذلك قيمة الشيء المقسوم عليه، فإنه يعني كذلك قيمة الشيء المقسوم به.
ومن بين الأشياء التي أقْسم الله - تعالى - بها في مُحكم التنزيل، النجم.
إذًا لماذا أقسَم الحقُّ - تعالى - بالنجم في القرآن على مصداقِيَّة الوحي الربَّاني للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا حدَّده بـ"إذا هوى"؟
قبل مدَّة اكتشَف العلماء نجمًا عملاقًا يُعَد من أكبر النجوم العملاقة في الكون المكتشفة حتى الآن، يبلغ وزنه 150 ضعف وزن الشمس التي يبلغ وزنها حوالي 332000 ضعف الأرض، وهو نجم يَبعد عن الأرض مسافة 240 مليون سنة ضوئيَّة، والسنة الضوئيَّة هي وحدة قياس المسافات في الفضاء، يقطع الضوء خلالها مسافة 299792,5 كم في الثانية، هذا النجم العملاق اكتشفوه وقد تَهاوى على نفسه في حالة انفجار مروعة جدًّا، وقصة هذا التهاوي أنه بعد عِدَّة بلايين من السنين، يستنفذ هذا النجم وقودَه ولا يعود - من ثَمَّ - قادرًا على إنتاج الضوء والحرارة، والنتيجة هي الانفجار والتهاوي نحو المركز، حيث تتجمَّع طاقته الذاتية، وانفجار هذا النجم - بمثل هذه الضخامة - يُعَد دليلاً لدى العلماء على حتميَّة انفجار النجوم عندما تستنفذ وقودها الكامل، ومن ثَمَّ فإنَّ الكون لا بد وأنَّ له نهاية في آخِر المطاف عندما تستنفذ كلُّ النجوم طاقتها.
إذًا هذه حقيقة علميَّة يَثبتها القرآن الكريم في صفوف آياته وسُوَره، وهي كما رأينا آيَةٌ عظيمة من آيات الله في هذا الكون الفسيح، فلا جَرَم إذًا أنَّ الله - تعالى - لَم يُقسم بها إلاَّ لأجْل عَظَمتها في ذات نفسها، ولأجْل عَظَمة الشيء المراد القسم لأجْله وهو الوحي.
الله - تعالى - هنا يقسم بهذا النجم العملاق، والذي عُمره بلايين السنين، ثم تهاوى على نفسه بعد أن اسْتَكمل طاقته الذاتيَّة، وكلمة "هوى" التي تعني: الفراغ والسقوط، فكلُّ خالٍ هواء.
ويقال أيضًا: هوى على الأرض؛ أي: سقَط..، ومن ثَمَّ يكون استخدام القرآن الكريم لهذه المفردة آية علميَّة على صِدقه؛ وذلك لأنَّه كان يمكن أن يستخدم مثلاً كلمة "انفجر"، ولكن لأنَّ الحقيقة العلميَّة التي تقرِّر أنَّ هذا النجم إنما يَسقط على نفسه؛ أي إنَّ الانفجار لا يكون إلى الخارج، بل نحو الداخل والمركز، حيث تتجمَّع طاقته الذاتيَّة، وتأبى هذه الكلمة "انفجر" كذلك أبى القرآن استخدامَها، بل استخدم كلمة "هوى" التي تعني - كما قلنا - الفراغ والسقوط؛ أي: السقوط نحو الداخل.
والدَّلالة النفسيَّة من وراء هذا المعنى أنَّ القارئ يستشعر قوَّة وثبات المصدر الذي يستمدُّ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعاليمَ الوحي، وأيضًا يَستمد منه مصداقيَّته في التبليغ والدعوة، فهذا الوحي الربَّاني الذي جاءنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مصدره الله - تعالى - صاحب القوة العُظمى، والجبروت الفائق، والهيمنة المطلقة على الوجود، ولا شك أنَّ استشعار المتلقي لهذا المعنى - معنى قوَّة المصدر في الوحي المحمدي - يُكسبه ثباتًا وطمأنينة لحقانيَّة هذا الدين الذي ينتمي إليه، ومِن ثَمَّ لا يُبالي بأراجيف الجاهليين الذين يجهدون في إبعاده عن هذا الدِّين، أو على الأقل تشكيكه في حقانيَّته ومصداقيَّته.
ويزيد القرآن الكريم هذا المعنى الذي يحسُّه الإنسان ترسيخًا في عقله وضميره، وهو يقرأ هذه الآية بالقول: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2].
والقرآن الكريم استخدم هاتين المفردتين؛ لعُمق دَلالتهما على المعنى المراد ترسيخه في نفسيَّة المتلقِّي وعقليَّته، وذلك لأنَّ مفردة "ضلَّ" تعني لُغويًّا: ضياع الشيء وذَهابه في غير حقِّه، وكلمة "غوى" تدلُّ على شيئَيْن: على خلاف الرشد، والآخر على فساد في الشيء، ومنه سُمِّيت السحابة: غيابة؛ لحجْبِها ضوء الشمس عنك، ونقول: غَوِي الفصيل، إذا شرِبَ من اللبن كثيرًا، ففسَد بطنُه.
والنتيجة لكلِّ هذا أنَّ العلاقة بين قسَمِ القرآن بهُويِّ النجم وعدم ضلال وغَواية الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعني في بُعدها العميق أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجمع في دعواه الوحي الربَّاني ثلاثةَ معانٍ: قوة المصدر الذي يتلقى عنه "إيحاء هُوِيِّ النجم"....، جلاء الوحي وبيانه ووضوحه "إيحاء عدم الضلال"، عدالة الوحي الذي جاء به واستقامته على ناموس الحقيقة "إيحاء عدم الغَوايَة".
ويزيد القرآن الكريم بيانًا على مصداقيَّة الوحي الذي يتلقَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4].
فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادقٌ في قوله، مُبلغ لرسالة ربِّه دونما أدنى تدخُّل منه فيها، فهو معصوم من الخطأ والزَّلل في التبليغ، ومِن ثَمَّ فهو لا ينطق بأدنى كلمة عن هوًى مُستتر، أو رأي آفنٍ، بل عن وحي إلهي الذي يُحيط علمًا بكلِّ دقيقة في أعماق الإنسان، ومسيرة الوجود، ومستقبل الأبديَّة.
ولا ريبَ أنَّ الإنسان - وهو يقرأ هذا المعنى ويَستشعره في نفسه - يجد الهدوء والطمأنينة وهو يتلقى تعاليم الشريعة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومِن ثَمَّ يروح منفذًا لها بكلِّ قوَّة وثبات ويقين، فضلاً عن مُجادلتها واللَّجاج فيها؛ كما يفعل الذين لَم تُخالط بشاشةُ الإيمان قلوبَهم؛ ولذلك نفَى الله - تعالى - الإيمان عمَّن وجَد في نفسه من تعاليم الشريعة بقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
ولكي يزيد القرآن الكريم إيحاءً للقارئ بقوَّة المصدر الذي يتلقَّى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ينبِّه إلى جزئيَّة غيبيَّة؛ حتى يملأ نفسيَّة المتلقي بعَظَمة المرجعيَّة وقوَّة المصدر الذي يتلقى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل الوحي، وذلك بالحديث عن الواسطة بين الله وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5].
إذًا هذا الوحي استجمَع عناصر القوة في أطرافه الثلاثة: المصدر: الله - جل جلاله، والواسطة: الملاك جبريل - عليه السلام، والمبلِّغ: الرسول - صلى الله عليه وسلم.
يا ألله، أي إعجاز هذا؟ وأيَّة عَظَمة هذه؟ وأيُّ عُمق في الدَّلالة والإشارة التي تحتوي عليها هذا الكلمات الخالدة؟!
إنَّ الله - تعالى - لا يريد بهذا الإنسان إلاَّ الخيرَ والسعادة، والفلاح في الدنيا والآخرة، وليْت شعري، ما حمَل الحق - تعالى - على خلْق هذا الكائن الضعيف الضئيل وقد كان نَسْيًا مَنسيًّا في مجاهل العدم وأعماق الفناء، لوْلا محبَّته له وتقديره له.
أرأيت يا أخي الحبيب، يا أختي العزيزة، كم نحن ظالمون مقصِّرون في حقِّ ربِّنا - جلَّ مَجْدُه - إنَّ إلهًا يحتفل بك - فكرًا وشعورًا وسلوكًا، من خلال مُراعاته لكلِّ صغيرة وكبيرة حتى في الكلمات والتعبير هذا الاحتفال العظيم، ويُكرمك هذا التكريم الجليل - لإلهٌ حَرِيٌّ أنْ يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأنْ يُذكر فلا يُنسى، ولكنَّ الإنسان جهولٌ ظلوم.
إذًا ليعزم كلُّ واحد منَّا على تجديد علاقته بالله - تعالى - وعلى الارتقاء بها إلى مستوى التكريم الذي شرَّفه به ربُّه - تعالى، وليعزم كلُّ واحد منَّا على قصْر معنى وجوده في الحياة على ثلاثة أشياء: تَفهُّم حقائق هذا الدِّين ومعانيه في أبعادها العميقة، ممارسة هذه التعاليم ورُوحها العميقة في سلوكيَّاته كافَّة: مع نفسه ومع غيره من الأناسي؛ القُرباء، والبُعداء، ومحاولة تبليغ حقيقة هذا الدين للناس جميعًا بحسب الاستطاعة، وبحسب الموقع والمكانة الاجتماعية التي يحتلُّها.
إنَّ هذا الدين عظيم، فحاوِلْ أن تكون أنت أيضًا عظيمًا في كل شيء؛ في أفكارك، في مشاعرك، في أحلامك وأهدافك، في علاقاتك المختلفة، ويوم تكون كذلك يحقُّ لك أن تقول بكلِّ فخرٍ واعتزاز: أنا مسلم، أنا من أُمَّة القرآن، أنا من أتباع النبي العظيم محمد - صلى الله عليه وسلم.
حاوِلْ يا أخي ويا أُختي في الله - تعالى - فالله لَم يُكلفك عنتًا، ولا يُريد بك شقاءً.
اللهم اغفرْ لنا تقصيرنا في حقِّك، وتضييعنا لأمْرك، وتفريطنا في جَنبك، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.
_________________________________________________
الكاتب: نور الدين قوطيط