الشقاق الديني بين روسيا وأوكرانيا وعلاقته بالحرب
التاريخ السياسي المتشابك لأوكرانيا مع روسيا له نظيره في المشهد الديني، حيث ينقسم غالبية السكان المسيحيين الأرثوذكس في أوكرانيا بين مجموعة مستقلة التفكير مقرها في كييف وواحدة موالية لبطريركها في موسكو...
التاريخ السياسي المتشابك لأوكرانيا مع روسيا له نظيره في المشهد الديني، حيث ينقسم غالبية السكان المسيحيين الأرثوذكس في أوكرانيا بين مجموعة مستقلة التفكير مقرها في كييف وواحدة موالية لبطريركها في موسكو. لكن بينما كانت هناك دعوات للقومية الدينية في كل من روسيا وأوكرانيا ، فإن الولاء الديني لا يعكس الولاء السياسي وسط صراع أوكرانيا من أجل البقاء. فعلى الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برر غزوه لأوكرانيا جزئيًا على أنه دفاع عن الكنيسة الأرثوذكسية ذات التوجهات الروسية، إلا أن قادة كل من الفصائل الأرثوذكس من الأوكرانيين يدينون بشدة الغزو الروسي، كما تفعل الأقلية الكاثوليكية في أوكرانيا.
نادى المتروبوليت إبيفاني -رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في كييف- “بالصلاة من أجل محبة الله، ومن أجل أوكرانيا، من أجل جيراننا، نحارب الشر وسنرى النصر”.
وقال المطران أونوفري -رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، الخاضعة لبطريرك موسكو الأرثوذكسي ولكن تتمتع باستقلالية واسعة- : “انسوا الخلافات المتبادلة وسوء الفهم … واتحدوا بالحب لله ووطننا الأم”.
حتى تلك الجبهة الموحدة على ما يبدو معقدة. بعد يوم من نشر رسالة أونوفري يوم الخميس، بدأ موقع كنيسته على الإنترنت في نشر تقارير تزعم أن كنائسهم وأشخاصهم مستهدفون، وألقى باللوم في هجوم على ممثلي الكنيسة المنافسة. كما تردد صدى الانقسام بين الهيئات الأرثوذكسية الأوكرانية في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة حيث كافحت الكنائس الأرثوذكسية بشأن كيفية الانحياز إلى جانب ما وما إذا كانت ستتحيز أم لا. يأمل بعض الأرثوذكس الأمريكيين أن يتمكنوا من تنحية مثل هذه النزاعات جانبًا والتوحد لمحاولة إنهاء الحرب، بينما يخشون أيضًا أن تؤدي الحرب إلى تفاقم الانقسام.
واقع المشهد الديني في أوكرانيا:
تقدر الدراسات الاستقصائية أن الغالبية العظمى من سكان أوكرانيا من الأرثوذكس، مع وجود أقلية كبيرة من الكاثوليك الأوكرانيين الذين يمارسون طقوس بيزنطية شبيهة بالقداس الأرثوذكسي لكنهم موالون للبابا في روما. وباقي السكان يشملون نسبًا صغيرة من البروتستانت واليهود والمسلمين.
ينقسم تاريخ أوكرانيا وروسيا إلى تاريخ مشترك دينيًا وسياسيًا. حيث يعود أصلهم إلى مملكة كييف روس في العصور الوسطى، والتي رفض أميرها فلاديمير (فولوديمير باللغة الأوكرانية) الوثنية في القرن العاشر، وتعمد في القرم واعتمد الأرثوذكسية ديانةً رسمية.
في عام 2014، استشهد بوتين بهذا التاريخ في تبرير استيلائه على شبه جزيرة القرم، وهي الأرض التي وصفها بأنها “مقدسة” بالنسبة لروسيا؛ وبينما يقول بوتين إن روسيا هي الوريث الحقيقي لروس، يقول الأوكرانيون إن دولتهم الحديثة لها نسب مميز وأن موسكو لم تظهر كقوة إلا بعد قرون من هذا التوتر المستمر في العلاقات الأرثوذكسية.
تاريخياً، قسمت الكنائس الأرثوذكسية على أسس وطنية، حيث يتمتع البطاركة بالحكم الذاتي في أراضيهم بينما يجمعهم إيمان مشترك. يعتبر بطريرك القسطنطينية هو البطريرك “المسكوني الأول” من بين نظرائه، ولكن على عكس البابا الكاثوليكي، ليس لديه سلطة عالمية.
من يحكم الكنائس الأرثوذكسية في أوكرانيا اليوم؟
هذا يعتمد على كيفية تفسير الأحداث التي وقعت منذ أكثر من 300 عام. فمع تنامي قوة روسيا وضعف كنيسة القسطنطينية في ظل الحكم العثماني، فوض البطريرك المسكوني في عام 1686 إلى بطريرك موسكو سلطة ترسيم مطران (كبير أساقفة) كييف؛ تقول الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إن هذا التفويض كان دائما؛ بينما يقول البطريرك المسكوني إنه كان إجراءً مؤقتًا.
وعلى مدار القرن الماضي، شكل الأوكرانيون الأرثوذكس المستقلون كنائس منفصلة تفتقر إلى الاعتراف الرسمي حتى عام 2019، عندما اعترف البطريرك المسكوني الحالي برثلماوس بأن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية مستقلة عن بطريرك موسكو.
كان الوضع في أوكرانيا أكثر ضبابية فقد قال جون بيرجس -مؤلف كتاب “روس المقدسة: ولادة الأرثوذكسية في روسيا الجديدة”- إن العديد من الأديرة والأبرشيات لا تزال تحت سيطرة بطريرك موسكو، على الرغم من صعوبة الحصول على إحصائيات دقيقة. على مستوى القرية، قد لا يعرف الكثير من الناس أي أبرشية يتبعون.
هل يؤثر هذا الشقاق في الانقسام السياسي بين البلدين؟
نعم، على الرغم من أن الأمور تبدو معقدة.
رسم الرئيس الأوكراني السابق -بيترو بوروشينكو- رابطًا مباشرًا بين الاستقلال الديني والسياسي عندما أعلن في 2018: “استقلال كنيستنا هو جزء من سياساتنا المؤيدة لأوروبا والموالية لأوكرانيا”.
لكن الرئيس الحالي فلاديمير زيلينسكي -وهو يهودي- لم يضع نفس التركيز على القومية الدينية. وقال إنه تحدث إلى كل من الزعماء الأرثوذكس وكبار ممثلي الكاثوليك والمسلمين واليهود؛ “يصلّي جميع القادة من أجل أرواح المدافعين الذين ضحوا بأرواحهم من أجل أوكرانيا ومن أجل وحدتنا وانتصارنا. وهذا مهم للغاية”.
وقد حاول بوتين الاستفادة من هذه القضية؛ ففي خطابه يوم 21 فبراير الذي سعى فيه إلى تبرير الغزو الوشيك لأوكرانيا بسرد تاريخي مشوه، ادعى بوتين -دون دليل- أن كييف كانت تستعد لـ “تدمير” الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو.
لكن رد فعل الميتروبوليت أونوفري -الذي شبّه الحرب بـ “خطيئة قابيل”، الشخصية التوراتية التي قتلت شقيقها- يشير إلى أنه حتى الكنيسة التي تميل إلى كنيسة موسكو لديها شعور قوي بالهوية الوطنية الأوكرانية.
وبالمقارنة، دعا بطريرك موسكو كيريل إلى السلام لكنه لم يجرؤ على توجيه اللوم إلى الغزو.
تتمتع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو منذ فترة طويلة باستقلالية واسعة. بالإضافة إلى أن ميولها الأوكرانية بدأت تتزايد.
قال أليكسي كرينداتش -المنسق الوطني للإحصاء الأمريكي للكنائس المسيحية الأرثوذكسية-: “بغض النظر عن الانتماء للكنيسة … لديك الكثير من رجال الدين الجدد الذين نشأوا في أوكرانيا المستقلة”. وتابع كرينداتش -الذي نشأ في الاتحاد السوفياتي السابق- “ومن ثم فلا ترتبط تفضيلاتهم السياسية بالضرورة بالسلطات القضائية الرسمية لأبرشياتهم”.
أين يقف الكاثوليك في هذا الصراع ؟
يعيش الكاثوليك الأوكرانيون بشكل رئيسي في غرب أوكرانيا. وقد ظهرت الكاثوليكية في عام 1596 عندما خضع بعض الأوكرانيين الأرثوذكس -تحت حكم الكومنولث البولندي الليتواني الذي يهيمن عليه الكاثوليك- لسلطة البابا بموجب اتفاق سمح لهم بالاحتفاظ بممارسات مميزة مثل القداس البيزنطي والكهنة المتزوجين.
لطالما شجب القادة الأرثوذكس مثل هذه الاتفاقات و اعتبروها تعد كاثوليكي وأجنبي على رعاياهم الكاثوليك الأوكرانيين الذين لديهم تاريخ طويل في مقاومة الاضطهاد تحت قيادة القياصرة والشيوعيين.
قالت ماريانا كارابينكا -رئيسة قسم الاتصالات في الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية في فيلادلفيا-: “في كل مرة تستولي فيها روسيا على أوكرانيا، يتم تدمير الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية”. فقد تعرض الكاثوليك الأوكرانيون لقمع شديد من قبل السوفييت، حيث استشهد العديد من الرموز هناك. وواصل العديد من الكاثوليك الأوكرانيين العبادة تحت الأرض، ولم تنتعش الكنيسة بقوة إلا بعد نهاية الشيوعية.
بالنظر إلى هذا التاريخ، قد يكون لدى الكاثوليك الأوكرانيين سبب قوي لمقاومة استيلاء موسكو على بلادهم مرة أخرى. وتابعت كارابينكا: “لم يكن الكاثوليك الأوكرانيون المجموعة الوحيدة التي اضطهدها السوفييت، فالكثير من الجماعات لديها سبب للمقاومة.”
حاول الباباوات الجدد إذابة العلاقات مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية حتى أثناء الدفاع عن حقوق الأوكرانيين وغيرهم من الكاثوليك من الطقوس الشرقية. لكن بعد الغزو الروسي، زار البابا فرنسيس السفارة الروسية يوم الجمعة “للتعبير شخصيًا عن قلقه بشأن الحرب”، كما قال الفاتيكان، في لفتة بابوية غير عادية لها سابقة في الآونة الأخيرة.
كيف تردد صدى الشقاق الأرثوذكسي خارج أوكرانيا؟
قررت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية “قطع الشراكة الإفخارستية” مع بطريرك القسطنطينية المسكوني في عام 2018 عندما تحرك للاعتراف بكنيسة مستقلة في أوكرانيا. وهذا يعني أن أعضاء الكنائس التابعة لموسكو والقسطنطينية لا يمكنهم المشاركة في الكنائس الأخرى.
امتدت الخلافات إلى الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في إفريقيا، حيث اعترف الأرثوذكس الروس بمجموعة منفصلة من الكنائس بعد أن اعترف بطريرك إفريقيا باستقلال الكنيسة الأوكرانية. لكن سعت العديد من الكنائس الأخرى إلى تجنب المشاجرة. ففي الولايات المتحدة -مع وجود سلطات أرثوذكسية متعددة- لا تزال معظم المجموعات تتعاون وتتعبد مع بعضها البعض. قال القس ألكسندر رنتل -مستشار الكنيسة الأرثوذكسية في أمريكا، التي لها جذور روسية ولكنها مستقلة الآن عن موسكو- إن الحرب قد توفر نقطة وحدة بين الكنائس الأمريكية، لكنها أيضا تمحيص للعلاقات بشكل أكبر. كان هذا الانقسام الذي حدث في الأرثوذكسية العالمية حدثًا يصعب على الكنيسة الأرثوذكسية معالجته، والآن ستزداد صعوبة الأمر بسبب هذه الحرب”.
_____________________________________________
- يوراس كارماناو، لويس أندريس هيناو
- ترجمة: محمد علي راشد
- التصنيف:
- المصدر: