توحيد الربوبية-2
هبة حلمي الجابري
واحذر أن تقع في أي ناقض من نواقض توحيد الربوبية! فكل معنى من معاني الربوبية يكون له مضاد من وقع فيه فقد هلك وناقض توحيد الربوبية.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
- المعنى الثاني من معاني الربوبية:
اعتقاد انفراده سبحانه وتعالى بالمِلك والمُلك التام. والمِلك: ملك الذوات والأشياء، أما المُلك: حق التصرف في هذه الأشياء.
هل تحب أن يكون لك مِلك خاص بك؟ هل تحب أن تشتري قطعة أرض على سطح القمر؟ هيا أعد نقودك فالفكرة ليست مستحيلة.
في ۱۹۹۷ تم إطلاق معاهدة الأمم المتحدة للفضاء الخارجي، كان من ضمن بنودها بند غریب ينص على أن القمر لا يعد ملكية خاصة بأي دولة من الدول !
لكن في بداية الثمانينات أرسل بائع سيارات مستعملة أمريكي يدعى (دینیس هوب) إلى منظمة الأمم المتحدة يخبرهم أن هناك ثغرة في القانون الخاص بهم والذي ينص على عدم جواز ملكية القمر لأي دولة من الدول لكنه لم يتحدث عن الأفراد، فبالتالي هو يدعي حق الملكية للقمر لنفسه ويطالبهم بإثبات خطئه القانوني!
ثم قام بطباعة حقوق الملكية لبيع فدان القمر الواحد بحوالي 19 دولار. تغير السعر بعد ذلك إلى 36.5 دولار بعد إضافة تكاليف الشحن والتوصيل لشهادة البيع وبعد إضافة (الضريبة القمرية) التي وضعها ولكن يوجد تخفيضات كبيرة بالطبع لمن يشتري أكثر، وكسب هوب 11 مليونا من الدولارات من بيع أراضي القمر، فمن الذي لا يريد أن يدفع عشرين دولارا فقط لشراء فدان من القمر ويأخذ شهادة أنيقة ويعلقها في غرفة مكتبه ليمزح حولها مع الأصدقاء.
فهل يمتلك دينيس أو من اشترى منه قطعة من أرض القمر فعلا؟ لا يمكن لأحد منا أن يزعم أنه يملك شيئا ملكا تاما حقيقيا للأبد، تلك السيارة التي نظن أننا نملكها ملكية تامة، ما الحديد الذي صنعت منه إلا جزءا من تركة الحديد التي تركها الله سبحانه وتعالى للبشر يتوارثونها.
ودعونا نتأمل قليلا في حقيقة ما نملكه لنتأكد من ذلك، لو قلنا مثلا أن إنسانا يملك قطعة من الأرض الزراعية، فهو يقول أنها مكتوبة باسمي ومشهرة في الشهر العقاري وغير ذلك، إذا من مائة عام كانت ملكا لمن؟! وبعد ألف سنة ستكون لمن؟! وبعد عشر آلاف سنة ستكون لمن؟! بعد مائة ألف سنة ستكون لمن؟! يوما ما سيموت ويتركها لمن خلفه، وفي لحظة من اللحظات سيبيعها أحد ورثته، أو سينقطع نسله أو يضيع نسبه فتأخذها الدولة لتبيعها لمن يدفع أكثر، في النهاية فإن مليارات البشر ستتعاقب في آلاف السنين على نفس القطع من الأرض لتعيش عليها قليلا ثم تتركها، فمِلكه عليها مِلك ناقص.
ولكن دعونا نفترض أنها فعلا مِلكه فهل يستطيع أن يقول لها أنبتي الزرع فتنبته؟!
بالطبع لا، فالذي يقدر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وحده الذي له المُلك الحقيقي، {﴿ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۚ وَٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا یَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِیرٍ ﴾} [فاطر : ١٣]
كل من هو دون الله عز وجل لا يملك قطميرة، تخيلي القطمير؛ نواة البلح فيها غلاف رقيق يغلفها هذا اسمه القطمير والعرب كانت تضرب به المثل للتحقير ، كانوا يقولون: أنت لا تملك قطميرة يعني لتحقير ما يملكه هذا الشخص، كل من هو دون الله عز وجل لا يملك هذا القطمير لنفسه حال حياته، فكيف بعد مماته؟!
عندما وُجِدنَا في هذا الكون رأينا أنه يوجد الكثير من الأشياء من حولنا، وأننا موجودون في ملكية خاصة بالفعل، ولكنها لا تعود إلى أي واحد منا حقيقة، إذا الملك الحقيقي لله وحده.
ويخبرنا القرآن بمبدأ الملكية المتفردة لله سبحانه وتعالى حين يقول الله جل جلالة: {(قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٨٤﴾ · سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٨٥﴾} ، [المؤمنون].
والعجيب أننا بعد ذلك نجد من يبخل عن الإنفاق على الفقراء من مال الله الذي أعطاه إياه. ويأكل أموال اليتامى ويحرم أخواته البنات من الميراث، ويجمع المال من طريق حرام ليحصل على مال يكون ملكه له ملكا ناقصا لوقت قليل وسيذهب لغيره يتنعم به - لفترة محدودة أيضا - ولا يتبقى له منه إلا الحساب عليه، ليُسئل من أين حصل عليه وفيما أنفقه، يحاسبه مالك المال الحقيقي على ما فعله بماله الذي أعطاه له لفترة محدودة ليختبره وينظر ماذا ما سيفعل بما أعطاه من مال.
3- المعنى الثالث من معاني الربوبية:
اعتقاد انفراده سبحانه وتعالى بالأمر والنهي والتشريع والسيادة.
قال عز وجل : {﴿أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾} [الأعراف : ٥٤]
وقال سبحانه: { ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَـٰۤؤُا۟ شَرَعُوا۟ لَهُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا لَمۡ یَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ﴾ } [الشورى : ٢١]
وقال تعالى: {(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم)} فلما سمع عدي ابن حاتم الطائي الآية قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم ، فقال : « ( ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فاتبعتموهم ؟ ) قال : بلى ، قال : ( فتلك عبادتهم)» .
وقال تعالى: { وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلࣱ وَهَـٰذَا حَرَامࣱ لِّتَفۡتَرُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا یُفۡلِحُونَ } [النحل : ١١٦]
وقال تعالى: ﴿ {قُلۡ أَرَءَیۡتُم مَّاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقࣲ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامࣰا وَحَلَـٰلࣰا قُلۡ ءَاۤللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ } ﴾ [يونس : ٥٩]
إذا هنا التحليل والتحريم والنهي والتشريع حق خالص من حقوق ربوبية الله عز وجل.
فهل فعلا حققنا هذا النوع من معاني الربوبية في حق الله أم أن البعض يقع فيه دون أن يشعر؟ لقد بين لنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الحلال والحرام، فالحلال بين والحرام بين
ولكن بعض الناس يخالف شرع الله ويعبد هواه، يقول الله تعالى: {(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)} [الجاثية: ٢٣]
تقول: إن الحجاب الشرعي فريضة كالصلاة وتحذرها من خطر التبرج فإذا بها تقول لست مقتنعة! أو تقول أن الحجاب عادة وليس عبادة!
تقول: إن الخلوة حرام ولا يجوز لك التبسط في الكلام والخلوة مع أخو الزوج وزوج الأخت وابن العم وابن الخال فإذا بها تقول أن هذا تفكير خبيث ولن يصدر من هؤلاء أبدا. مع العلم أن هذا ليس كلامك ولا كلامي بل هي أوامر ربانية وشريعة الله.
تقول: إن الغش في المدرسة حرام، فيقول: ما هذه الأنانية ويزين له هواه الغش بدعوى أحب لأخيك ما تحب لنفسك.
تقول: إن الرشوة حرام فيقول إنها إكرامية وليست رشوة.
تقول: إن السفر للأضرحة والتوسل عندها شرك، فيقول إنما هي بركة. وهكذا
كم مرة سمعت من يقول إن الاحتفال بشم النسيم وغيرها من أعياد غير المسلمين حرام وأحضر الفتوى، ثم نجد من يقول ليست حراما ويجادل ويبرر .
بل قد يصل الأمر للاتهام بالتشدد وعدم فهم الدين الصحيح وأنك تُحرم كل شيء، ويقول أنا غير مقتنع .
هو للأسف هكذا يحلل ما حرم الله؛ لأن هذه أمور لا خلاف فيها أم أمور الخلاف الفقهي السائغ فلا تدخل في الأمر.
وليس معنا أننا ولدنا ووجدنا أمرا مخالفا للشرع منتشرا في المجتمع أنه أصبح مباحا، تفكروا في قوله تعالى : {(وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) ۞ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24)) } [سورة الزخرف]
فكيف كانت نهايتهم؟ { (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25))}
إن الفيصل ليس العادات والتقاليد المنتشرة في المجتمع ولا حتى عقلي؛ لأن عقلي يختلف عن عقلك وتفكيري يختلف عن تفكيرك وبالتالي لو سرنا وراء عقولنا سيكون لكل منا دين خاص به.
ليس أنا ولا أنت ولا جارتك ولا والدك ولا والدتك ولا المجتمع. الفيصل هو شرع الله والدليل من الكتاب أو السنة أو القياس أو غيره من مصادر التشريع التي يعرفها علماء الدين.
وعندها تقول: ( سمعنا وأطعنا ) وتنفذ فورا وتمتثل لأمر الله وأنت راضٍ وواثق أن كل ما أمر به الله هو خير لنا وكل ما نهانا عنه هو شر لنا، فكل ذلك من لوازم توحيد الربوبية.
وليست المشكلة فقط في إباحة ما حرم الله، وإنما أيضا تحريم ما أحل الله، اعتقادا أن هذا وسيلة تقربهم من الله سبحانه وتعالى؛ بعض النساء نجدها تقول أن لبس غير السواد للمرأة لا يجوز، وهذا شيء ما أنزل الله به من سلطان بل استحبه فقط بعض العلماء كونه أستر.
قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في جلباب المرأة المسلمة: "واعلم أنه ليس من الزينة في شيء أن يكون ثوب المرأة الذي تلتحف به ملونا بلون غير البياض أو السواد كما يتوهم بعض النساء الملتزمات وذلك لأمرين :
الأول : قوله صلى الله عليه وسلم : ( «طِيبِ النِّساءِ ما ظهَرَ لونُه وخَفِيَ رِيحُه» . . . ).
والآخر: جريان العمل من نساء الصحابة على ذلك: فعن إبراهيم وهو النخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر .
وعن ابن أبي مليكة قال: رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر .
وعن القاسم - وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق - أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة.
أيضا نجد من يحرم على نفسه الزواج تقربا لله مع أنه لا رهبانية في الإسلام، وهذا كله تحريم لما أحله الله وهو خطير على الإيمان كخطورة تحليل ما حرم الله، فلا نشدد على أنفسنا بتحريم الحلال ولا نفرط في ديننا بتحليل الحرام.
فلنحذر من أن نتقول على الله بغير علم نحرم حلالا أو نحلل حراما فهو والله أمر عظيم.
قال تعالى: {(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)} [النور: ١٥] فعندما تتحدث إحدى النساء عن مبارة لكرة القدم وأغلبهن بالطبع لا يفقهن فيها كثيرا، تجد من يقول لها لا تفتي فيما لا تفقهي فيه، نفس هذا الشخص بعد خمس دقائق قد يفتي في الدين ويقول هذا حلال وهذا حرام، وكأن الدين مباح لكل إنسان ليتكلم فيه برأيه.
هل تعرفون حكم الإفتاء بغير علم؟ حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء ، وجعله من أعظم المحرمات ، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى : {( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)} [الأعراف/33] .
وذلك غير إضلال الناس، فالمفتي بغير علم ضلَّ عن الحق، وأضل غيره ممن اتبعه في فتواه.
إذا فالتحليل والتحريم والنهي والتشريع حق خالص من حقوق ربوبية الله عز وجل.
عرفنا معاني الربوبية بفضل الله ولكن هل تعرفن أن رغم فضل الله على عباده جميعا وربوبيته لهم جعل هناك ربوبية خاصة وعناية خاصة بعباده المؤمنين؟
فربوبية الله على خلقه على نوعين:
1⃣ -الربوبية العامة: وهي لجميع الناس؛ بَرِّهم وفاجرِهم مؤمنِهم وكافرِهم؛ وهي خلقه للمخلوقين، ورزقُهم، وهدايتهم، لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
2⃣ -الربوبية الخاصة: وهي تربيته لأوليائه المؤمنين، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
فهل استشعرت هذه الربوبية الخاصة من قبل في حياتك؟
ألم تقرر يوما أن تأتي بمعصية ثم تجد أن كل الأبواب والطرق أغلقت أمامك فلم تستطع فعلها أبدا؟ حينما يحدث معك ذلك تذكر عناية الله بك وحفظه لك من أن تقع في المعصية.
ألم تنوي فعل خير ذات مرة فإذا بأبواب التيسير تفتح لك من حيث لا تحتسب؟ إذا حصل معك ذلك فاحمد الله واسجد له شكرا وتذكر أن هذا من فضله وربوبيته وعنايته الخاصة وتوفيقه لعباده المؤمنين.
ألم تقرأ في كتاب الله كيف حفظ الله يوسف عَلَيْهِ السَّلام عندما همت به امرأة العزيز وهم بها ولكنه لم يفعل فقد صرفه الله عن ذلك؛ قال تعالى: {كَذَلِكَ لنصرف عنهُ السُّوء والفحشاء} لماذا؟ { إنه من عبادنا المخلصين}، فعصمه الله منها من حيث لا يشعر وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما فِي قوله تعالى: { {يحول بين المرء وقلبه} } قال: يحول بين المُؤْمِن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
وهم رجل بمعصية فخرج إليها فمر فِي طريقه بقاص عَلَى النَّاس فوقف عَلَى حلقته فسمعه يَقُولُ: أيها الهامُّ بالمعصية أما علمت أن خالق الهمة مطلع عَلَى همتك فوقع مغشياً عَلَيْهِ فما أفاق إلا من توبة.
هل اهتز قلبك ودمعت عيناك وأنت ترى عناية الله لك في كل شيء فيك أو حولك أو حتى في القوانين التي وضعها لتحميك وتحمي المجتمع. فماذا تفعل مقابل كل هذه النعم وهذا الفضل؟
فكر جيدا وسنعرف الإجابة في لقائنا القادم بإذن الله.
واحذر أن تقع في أي ناقض من نواقض توحيد الربوبية! فكل معنى من معاني الربوبية يكون له مضاد من وقع فيه فقد هلك وناقض توحيد الربوبية.
فما الذي يضاد توحيد الربوبية؟
البعض بعد كل ما عرفناه من عظمة خلق الله وعنايته بهم ورزقه لهم وما يتجلي من مظاهر ربوبيته المبثوثة في كل ما في الكون من مخلوقات يخالف العقل والفطرة وكل نواميس الكون التي تكاد تنطق لتقول أن لي ربا خالقا عظيما، ثم يتجرأ وينكر وجود الله ويقول أن هذا الكون إنما وجد بالصدفة البحتة! إذا يضاد توحيد الربوبية الإلحاد، وإنكار وجود الرب ـ عز وجل ـ.
فإن آمن بأن لهذا الكون خالقا مدبرا فلابد أن يعترف بأنه الملك المتصرف في ملكه كيف يشاء.
فمن أتى بشيء يناقض مِلكه ومُلكه لهذا الكون بأن اعتقد أن هناك متصرف مع الله عز وجل في أي شيء؛ من تدبير الكون، من إيجاد، أو إعدام، أو إحياء، أو إماتة، أو جلب خير، أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته، كعلم الغيب، أو كالعظمة، والكبرياء، ونحو ذلك، فقد ناقض توحيد الربوبية.
كم من المسلمين يحرصون على قراءة حظك اليوم ومطالعة الأبراج والكف والفنجان والودع، وكأنهم يعتقدون أن لأحد غير الله أن يعلم الغيب؟! أو يعظمون أحدا من الخلق حتى ولو كان عالما أو شيخا أو زوجا ويقدمون كلامه على كلام الله؟! ربك الملك لا يقبل أن ينازعه أحد في ملكه طرفة عين.
ولذلك يضاد توحيد الربوبية أن بأن يعتقد الإنسان أن هناك متصرف مع الله عز وجل في أي أمر من أمور الربوبية.
وهذا الخالق له المُلك الحق وحده في أن يضع القوانين والتشريعات التي تنظم أمور
خلقه. فهو الرب وحده، وربوبيته شاملة لأمره الكوني والشرعي؛ فمن اعتقد وجود مشرع مع الله عز وجل فقد ناقض توحيد الربوبية. فليحذر كل من يخالف شريعة الله واتخذ قوانينا وضعية، أو حتى مجرد أن يرضى بها.
وبهذا نكون قد عرفنا أول نوع من أنواع التوحيد الثلاثة وهو توحيد الربوبية، وألقاكم بإذن الله قريبا لنعيش مع النوع الثاني من أنواع التوحيد وهو توحيد الألوهية.
ولكن قبل أن أترككم دعونا نتفكر في بعض مخلوقات الله من خلال هذه القصيدة المشهورة:
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك
و الكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيراً لها أعياك
قل للطبيب تخطفته يد الردى ! من يا طبيب بطبه أرداك ؟
قل للمريض نجا و عوفي بعدما عجزت فنون الطب ! من عافاك ؟
قل للصحيح يموت لا من علة ! من بالمنايا يا صحيح دهاك ؟
قل للبصير و كان يحذر حفرة فهوى بها ! من ذا الذي أهواك ؟
بل اسأل الأعمى خطى بين الزحام بلا اصطدام ! من يقود خطاك ؟
قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع و مرعى ! من الذي يرعاك ؟
قل للوليد بكى و أجهش بالبكاء لدى الولادة ! من الذي أبكاك ؟
و إذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله ! من ذا بالسموم حشاك ؟
واسأله ! كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا و هذا السم يملأ فاك ؟
واسأل بطون النحل ! كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد ! من حلاك ؟
بل اسأل اللبن المصفى كان بين دم و فرث ! من الذي صفاك ؟
و إذا رأيت الحي يخرج من حنايا ميت فاسأله ! من أحياك ؟
قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى عن عيون الناس ! من أخفاك
قل للنبات يجف بعد تعهد و رعاية ! من بالجفاف رماك ؟
و إذا رأيت النبت في الصحراء يربو وحده فاسأله ! من أرباك ؟
و إذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله ! من أسراك ؟
و اسأل شعاع الشمس يدنو وهو أبعد كل شيء ! ما الذي أدناك ؟
قل للمرير من الثمار ! من الذي بالمر من دون الثمار غذاك ؟
و إذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله ! من يا نخل شق نواك ؟
و إذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار ! من أوراك ؟
و إذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله ! من الذي أرساك ؟
و إذا ترى صخراً تفجر بالمياه فسله ! من بالماء شق صفاك ؟
و إذا رأيت النهر بالعذب الزلال جرى فسله ! من الذي أجراك ؟
و إذا رأيت البحر بالملح الأجاج طغى فسله ! من الذي أطغاك ؟
و إذا رأيت الليل يغشى داجياً فاسأله ! من يا ليل حاك دجاك ؟
و إذا رأيت الصبح يسفر ضاحياً فاسأله ! من يا صبح صاغ ضحاك ؟
ستجيب ما في الكون من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك
ربي لك الحمد العظيم لذاتك حمداً و ليس لواحد إلاك
يا مدرك الأبصار و الأبصار لا تدركك له و لكله إدراكا
إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء أستبين علاك
يا منبت الأزهار عاطرة الشذى
يا مجري الأنهار عاذبة الندى
ما خاب يوما من دعا و رجاك
يا أيها الإنسان مهلاً !!! ما الذي بالله جل جلاله أغراك ؟